( المقال التالي ألهمني شخص بعينه أن أكتبه قبل سنوات ، وهذا الشخص انتهز عجزي أن أدافع عن نفسي كي ينشر أكاذيب وافتراءات عني).
تناولت السينما المصرية بشكل ساخر موضوع ” المحلل ” أو ” الزوج المؤقت ” لزوجة طلقت ثلاث مرات وأصبح ضرورياً لها كي تعود إلي زوجها أن تتزوج بشخص آخر ، ثم تحصل منه علي الطلاق ، لذلك فهو كما وصفه البعض : ” زواج علي ورقة طلاق ” أو ” زواج مع وقف التنفيذ ” .. .
وبغض النظر عن موقف الشرع من هذا الموضوع ، فأن ما يهمني هنا هو شخصية ذلك الشخص ” المحلل ” ، فمن الناحية اللفظية هو ذلك الذي يؤدي بفعله أو بعدم فعله إلي تحليل المحرم وتحريم المحلل ، وهو من الناحية الفعلية ذلك الشخص الذي يقبل بآداء دور رخيص مقابل عائد مادي أو معنوي .
لذلك ، فأن هذا الشخص ، وبشكل فلكلوري لا يزيد عن إنسان إمعة من أدني درجات السلم الإجتماعي ، فاقد للقيمة والإعتبار ، ينتهي دوره بإنتهاء الهدف المطلوب منه تحديداً ، وهو إضفاء وجه شرعي زائف لبطلان مطلق .
ولقد كان إستدعاء هذه الشخصية القميئة ضرورياً حتي يمكن إيجاد مثال واضح للمقارنة يسهل علي الناس إدراكه ، حيث قفز إلي ذهني مباشرة بعد قراءة ” تحليل سياسي ” لكاتب مرموق ينشر مقالاته في عدد من الصحف ، ويطل علينا من مجموعة من الفضائيات العربية ، كالقمر الذي لا يتغير خلال الشهر ، أو ينال منه الكسوف الجزئي أو الكلي .
ولن أذكر إسم هذا الكاتب لعدة أسباب : أولاً : لأسباب أخلاقية تتعلق بالإباء عن التشهير بالناس ، وثانياً : لأنه لا ينفرد وحده بما سوف أوضحه فيما بعد من ملاحظات ، وثالثا: لأنني لا أريد أن أساهم في مزيد من الدعاية والإعلان عنه ، خاصة وأنه يقوم بذلك بذكاء شديد ، وأخيراً : لأنني أثق في ذكاء القارئ ..
فهذا الكاتب يحترف ” التحليل السياسي ” من زاوية خاصة جداً ، فهو يؤمن فيما يبدو إيماناً عميقاً بمبدأ ” الزبون دائماً علي حق ” ، وهذا الزبون المستديم ليس إلا ” السلطة السياسية ” ، لذلك فهو شيوعي إذا كانت هذه السلطة شيوعية ، وهو من أشد المدافعين عن الإشتراكية العربية إذا كانت تلك هي موضة العصر ، ثم هو المقاتل الصنديد عن الإنفتاح الإقتصادي و آليات السوق و ” دعه يمر ، دعه يعمل ” ، وهو أول المدافعين عن القضية الفلسطينية وعدالتها والصارخين بحمل السلاح والزود عن الحمي والأرض والعرض ، ثم هو في زمن آخر أول المهللين للسلام وأول القافزين في العربات الأولي للتطبيع مع إسرائيل ، فهو كالحرباء له مقدرة علي التغير والتلون طبقاً للطقس السياسي وتضاريس السلطة القائمة أياً كانت هذه السلطة .
والإعجاز الكبير لهذا الكاتب – ومن كان علي شاكلته – هو إمكانياته الفائقة علي الحديث وبنفس الحماس عن الشيئ وعكسه ، وقدرته اللولبية علي إصطناع الحجج والأسانيد إصطناعاً والدفاع عنها دفاع العابدين النسك عن مقدساتهم ، وله ملكات تمثيلية باهرة ترشحه بسهولة للعمل في المسرح أو السينما ، فهو ” مشخصاتي ” ضل طريقه واتجه إلي الكتابة .. وللأسف الكتابة السياسية .
وهذا النوع من الكتاب يعتمد علي ضعف ذاكرة القارئ وكبر دماغ السلطة ، فالسلطة تغض الطرف عن مواقف سابقة لمحلل سياسي يثبت بالدليل القاطع أنه تاب عن تلك المواقف واعترف بخطئه واعتدل ، أما القارئ الطيب فليس له ذاكرة الكومبيوتر كي يختزن فيها مواقف وآراء هؤلاء الكتاب ، كما أنه أحياناً كثيرة – وهذه هي المصيبة – يري في ذلك التلون شيئاً طبيعياً لا غضاضة فيه .
والواقع أن ما يفعله هؤلاء يشبه إلي حد كبير ما يقوم به ” المحلل ” الفلكلوري ، فهو يحلل الحرام ويحرم الحلال في السياسة مقابل عائد مادي أو معنوي ، فهو يبرر أعمال السلطة حتي أخطائها وخطاياها ، ويجتهد كالشيطان كي يلوث المعارضين ويسفه آراءهم ، وحين تصل العلاقة بين السلطة والشعب إلي حد الطلاق ، يتدخل كي يلعب دوره الرخيص فيتزوج الشعب علي ورقة طلاق ، حين يتبني بعض المواقف الشعبية وهو يقود الرأي العام بأسلوبه الثعباني كي يعيد الوئام والإتفاق بين الزوجين الأصليين .
وهذا النوع من الكتاب أدوات لا غني عنهم للسلطة السياسية ، ويري البعض أنه من الخطأ إتخاذ مواقف أخلاقية تجاههم ،فالكتابة – وفقاً لهذا الرأي – حرفة مثل باقي الحرف ، وبائع الأحذية مثلاً يجب أن يصنع الحذاء علي المقاس ، ويبذل جهده لإقناعك بأن اللون والموديل أكثر مناسبة لك من غيره ، لذلك فأن محاولة إعتساف أحكام أخلاقية خاصة لحرفة الكتابة تعد نوعاً من الشطط والمغالاة ، بل أنها تجافي واقع الأمور وحقيقة العلاقات الإنسانية .
ويري البعض الآخر ، وبشكل أكثر تحذلقاً ، أنه لا غضاضة في أن يغير الكاتب من آرائه مثلما يغير ملابسه الداخلية ، فالتغير هو سمة الحياة ، بل يرون أن تلك شجاعة تحسب للكاتب لا عليه ، فهو حين يدرك خطأه يبادر بتغيير موقفه ، وذلك يعد ضمناً إعترافاً منه بذلك الخطأ ، وبالتالي يستتبع ضرورة إعترافنا وتقديرنا لشجاعته ..
من الواضح أن الآراء السابقة التي تدافع عن هذا النوع من الكتاب لا تصدر إلا من نفس النوع ، فهم فصيل واحد له نفس الخصائص الحربائية ، وإذا كنا نتفق في أن بعض الكتابة هي بالفعل حرفة ، فأن لكل حرفة أخلاقياتها ولا يجوز لنا أن نزن الذهب بالطماطم ، وبائع الأحذية حين يجتهد في إقناع الزبون بشراء حذاء معين لا يستطيع أن يرغمه علي إرتداء ما ليس علي مقاسه ، ثم أن البائع المحترم يحرص علي سمعته فلا يغش الزبون ، ثم أن الغش التجاري يجرمه القانون ، وليس الحال كذلك – للأسف- في غش الضمائر وخداع العقول .
أن خطورة هذا النوع من الكتاب متعددة المستويات ، فمن ناحية هم يشاركون في خداع وتزييف وعي الجماهير ، كما أنهم يساهمون في خلق أنماط من السلطة ترتكن إلي هذا الخداع وتستمرئه بل ويكون لديها المبرر الأخلاقي في إتباع سياسات خاطئة ، بل أنهم يخدعون تلك السلطة نفسها عن طريق حرمانها من الرأي الصحيح والمشورة الخالصة ، ثم أن ذلك كله يؤدي إلي تواتر هذا الأسلوب بين أجيال طالعة من الكتاب يرونه النموذج والسلم المضمون للوصول ، وهو أخيراً يقود إلي فقدان المصداقية وإنعدام الثقة بين السلطة وكتابها من جهة ، وبين قطاع كبير من الجماهير من جهة أخري ، حيث يصبح هذا القطاع أرضاً خصبة للإشاعات والدعايات السوداء التي تستهدف المجتمع الذي فقد حصانته الفكرية بسبب هذا النوع الردئ من الكتاب .
ولسوف يكون من المفيد في هذا الصدد أن يقوم باحث جاد بجمع مقالات بعض كبار الكتاب خلال السنوات الماضية ، لإيضاح التضارب بل والتناقض الجوهري في تلك المقالات في ظل ظروف سياسية متعاقبة ، وأهمية هذا البحث هي أنه سيساعد في تعرية هذا النوع من ” المحللين ” أمام الرأي العام ، وقد يسهم في القضاء علي الظاهرة التي تشبه مرض الإيدز من حيث أنها تهاجم جهاز المناعة العقلي للجماهير ..