وحيدًا يمشي الهوينى، على شاطيء الإسكندرية، يملأ رئتين مشتاقتين نهمتين، برائحة اليود العفيّة الشهيّة، ويرسل إلى الأمواج الميَّاسة، نظرات عاشق مسَّهُ الشوق فذابَ، يُدندن بكلمات أحمد فؤاد نجم العبقرية: “إسكندرية تاني، وآه م العشق ياني”.
علاقته بالبحر كعلاقاته، باللواتي أحبهن، تسليمه عليهن كان وداعًا، ما إن يقر عينًا، حتى يتناسل الفراق من فراق، وما إن يدنو، حتى يضحي التنائي بديلًا عن التداني.
التقمته غربة، في طفولة مبكرة، ولما سبّح الرحمن الرحيم، قذفته لكن ليس إلى يم، ولم يجد شجرة يقطين، بل غربة أشد وحشة، وأقسى قلبًا، ومنها إلى غربة، ثم غربة، ثم غربة.
كريشة في يوم عاصف، لا بيت له، فما إن يألف منزلًا في الأرض، حتى تبعثره الريح.. وحنينه دومًا لأول منزل.. منزله في محطة كليوباترا.
وهكذا، تنفلت الأيام، فالأسابيع، فالشهور، فالسنوات، لا بأس، لا تقل شئنا، فإن الحظ شاء.
كل مكان في الأرض، هو غربة، إلا الإسكندرية، هي سُّرة العالم، التي منحته الغذاء والأكسجين، في رحم التكوين الفكري والثقافي والسياسي.
هي بنت بحري ذات الخلخال، الذي يشهق مع كل خطوة حنون، فيبوس ثم يبوس “كعب الغزال”.
وهي التي تلبس “السواريه”، فيسهر معها، مرتديا “التوكسيدو” على ضوء الشموع، في “سان جيوفاني”.
الإسكندرية هي “المدينة الأنثى”، التي تختار له فطوره، وألوان قمصانه، وقارورة عطره.
يحبها متطرفًا، غيورا مائجًا ثائرًا كالنوة، “وأيوه يا جدعان”.
ولعله إثر وقوعه تحت تأثير هذه العاطفة، يعاني تلك “النرجسية”، التي تكسو أحاديث الكثيرين من أبنائها، والتي تتفشى بين سكان مدن المتوسط عمومًا.
البحر يمنحنا مصدرا مجانيا للفخر، لكنه أبدا لا ينبغي أن يسوغ تلك اللهجة الفوقية المتعالية تجاه عباد الله، ليس أخلاقيًا أن نصعر خدودنا للناس، لمجرد أن “عندنا بحر”.
في جلسته إزاء الموج، شرع يمارس هوايته: تفحص وجوه السابلة، ممن جاءوا من كل فج عميق، لقضاء أيام معدودات، وهي هواية تمثل عرضًا جانبيًا، لمهنة الصحافة.
فلاحون.. ما وجه العار والشنار؟
فقراء.. كلنا أولاد آدم وحواء.
نحن أبناء المدينة الساحلية، لسنا منحدرين من سلالة الفايكينج، ولا من العرق الآري.. لسنا شعبًا مختارًا.
هم مصريون فقراء، والذين يعايرونهم بضيق ذات اليدين، ليسوا من أصحاب المليارات.
عدة أسر تشترك في شقة مفروشة، لبضعة أيام.. حسنًا، هل نستخسر فيهم أن “يشموا الهواء” لمجرد أنهم فقراء؟ ما الجريمة في أنهم يأكلون مكرونة أو محشي على الشاطيء؟
هل يأكلون من مالك يا أخي؟
أليس من حق الفقير أن يتحايل على همومه، فيضع القرش على القرش لمصيف يغسل في بحره همومه؟
هل “تعنصرنا” إلى حد الحط من قدر الناس لمجرد أن رزقهم من المال شحيح؟
لسنا شعبًا مختارا، وهم أغيار نتعالى عليهم وننتفش كالديك الرومي، بلا مبرر.
الإسكندرية، سيدة الكون، وملكة جمال العالم، لكنها أبدا لم تكن قاسية، ولطالما طبطبت على قلوب “الغلابة”، ولن تكون منتجعا خاصًا لأصحاب المليارات، بل ستبقى “مدينة اشتراكية”، شعبوية، مفتوحة الحضن، تستقبل زوارها بدلع الأوكورديون، رغم قلة أدب المتنمرين أصحاب القلوب السوداء، والذين يطنطنون في بلاهة: “احنا شعب وانتوا شعب”.