من النادر جداً فى عالم السياسة أن يحدث مثل هذا التركيز المطلق على شخص قائد ، كالتركيز الذى هو حادث اليوم على شخص عبد الناصر..
الشرق الأوسط منطقة هامة وحساسة لا يمكن أن تغفلها أى قوة كبرى من حسابها. وكل قوة من القوى تحمل فى مخيلتها “خريطة” تتمناها لهذا الشرق الأوسط وتعمل على تحقيقها.
وعبدالناصر يقف كحجر العثرة فى طريق كل من يرسم خريطة من هذا النوع للمنطقة هكذا كان منذ سبعة عشر عاماً ولا يزال.. القوى الدولية المتصارعة والكتل السياسية هنا وهناك..
فرنسا يوماً وانجلترا يوماً آخر وأمريكا يوماً ثالثاً وإسرائيل كل يوم ، ومتعلقة كل يوم بذراع من يرسم خريطة للمنطقة تناسب هواه وهواها..
والمشكلة هى زعامة عبدالناصر
ذلك أننا إذا أردنا فى حقيقة الأمر أن نلخص دور عبدالناصر إلى أقصى درجات التلخيص ، وأن نلخص الموجة التى دفعها والتى حملته فى نفس الوقت لقلنا: إن معركته هى معركة من يريد أن تكون “الإرادة” فى المنطقة العربية إرادة عربية والقول فى مستقبل العرب للعرب.. ضد الذين يريدون أن تكون الخيوط المُحركة فى المنطقة مربوطة فى النهاية إلى أيد غير عربية وإرادات غير عربية..
هذا هو مغزى زعامة عبد الناصر. وهذا هو مغزى الإرتباط العميق بينه وبين الجماهير العربية. هذا الارتباط الذى تحاول إسرائيل أن تدمره بغارات الطائرات!
عبد الناصر يعترض طريق الجميع.. جميع الغرباء عن المنطقة..
ولهذا تفكر إسرائيل والذين وراءها والذين هم معها بقلوبهم أنهم لو كسروا هذه الحجرة ، لو كسروا هذه القيادة ونفوذها.. فإنهم يتوقعون أن تتشتت المنطقة وأن تزيغ الأبصار فيها زمناً طويلاً.. كلٌ يتلفت حوله باحثاً عن ملاذ ، عن مَخرج ، عن مظلة واقية.. ومن يحاول الصمود بمفرده فسيكون ضعيفاً ، معزولاً ، سرعان ما يحاط به..
وعلى العكس فهم يرون أن مجرد استمرار عبدالناصر رافعاً الراية يشد العزائم وينفث روح المقاومة والرفض قى أكثر من قطر عربى ولو دون مبادرة منه.. كالمقاتلين الذين يلمحون فى دخان المعركة وترابها واضطرابها ، رايتهم وهى لا تزال مرفوعة فيتشجعون ويلتحقون بالصفوف.
وجود عبدالناصر يجعل اللعبة كلها مربوطة به ويحجر بالتالى على حرية الذين يريدون أن يلعبوا فى المنطقة. والقوى الكثيرة التى تريد أن تتخلص منه تريد أن تسترد حرية اللعب وأن تضع كل منها قواعد اللعبة التى تناسبها وهى حرية لا يتمتعون بها فى وجود قيادة عبدالناصر وماتمثله لدى الجماهير العربية.
قيادة عبدالناصر تعترض طريق الجميع ، جميع الغرباء عن المنطقة.
وقيادة عبدالناصر تحمى الجميع ، الذين هم من المنطقة.
أعرف ساسة ورسميين وأفراداً عاديين فى أقطار عربية شتى.. ليسوا من المُلتقين مع أفكار عبدالناصر ولم يكونوا دائماً من الواقفين معه.. ولكنهم حتى هم فى ساعات الظلام والخطر والغموض يجدون أن وجود زعامة عبدالناصر فى المنطقة تعنى لهم شيئاً ، وتعنى عدم القفز إلى المجهول.
يقول لى مسئول فى ركن قصى صغير من أركان العالم العربى: الأجنبى حين يتعامل معنا يحسب الآن حساب أننا من الأمة العربية وهذا شيئ أوجده عبدالناصر.
الدرجة الموجودة من عدم التنسيق العربى ومن الترهل العربى ومن التناقض العربى ومن عدم تنبه كافة الأعصاب الحساسة فى الجسد العربى يجب أن نعترف بها.. ولكن يبقى أن ثمة شيئاً يضع حداً أدنى لهذا ويحول دون أن يتحول عدم التنسيق والإشتغال بالمعارك الجانبية إلى فوضى شاملة وتّسيُبْ كامل فتنقَض الذئاب المنتظرة على القطيع المبعثر المشتت واحداً واحداً..
وهذا الشيئ هو قيادة عبدالناصر أنه يحمل على كتفيه.. كل هذا.
حتى من يتدلل ومن يتلهى ومن يجد ترف الإنشغال بمعارك جانبية يعرف أن وجود قيادة عبدالناصر فى خط المواجهة هو الذى يسمح له بهذا الترف.. وإلاّ أدركه الطوفان.
حتى من يتمتع بترف آخر هو ترف المُزايدة دون أن ينكشف أو يقدم الحساب.. يعرف أن الميزان موجود يغطيه بوجود غيره فى خط المواجهة بوجود قيادة عبدالناصر..
وهذا كله يثير الأعداء ويدمر عقولهم.
يثيرهم أن ترتبط “اللعبة” فى المنطقة كلها به وهو منتصر..
ويثيرهم أكثر أن ترتبط به وهو غير منتصر..
ذلك أنهم يرون المّغزّىّ هنا أعمق والإرتباط أقوى..
وهم لا يتمنون إلاّ أن تدب الفوضى ويعم التسيب فتنقض الذئاب الغريبة عن المنطقة العربية على القطيع المُبعثر تلتهمه واحداً واحداً.
ملحوظة هامة
هذا المقال النبؤة للأستاذ “بهاء”، كتبه في يناير عام 1970، وعبد الناصر بيننا، ثم عاد ونشره في أكتوبر من نفس العام، وعبد الناصر في رحاب الله.