منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، كان الرئيس بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، منقسمين بسبب الصراع في الرؤى بشأن مكافحة التمرد.
لقد كانت إسرائيل مصممة على تدمير حماس بأي ثمن، في حين أعرب المسؤولون الأمريكيون عن قلقهم من أن إسرائيل كانت تلحق عدداً كبيراً جداً من الضحايا المدنيين، ولم تفعل ما يكفي لضمان توصيل المساعدات الإنسانية، وافتقرت إلى خطة “اليوم التالي” لتحقيق الاستقرار في غزة بعد هزيمة حماس.
وكما نقلت صحيفة “واشنطن بوست” عن أحد المسؤولين الأمريكيين، فإن “الإسرائيليين يظهرون كيف ينبغي إلا تقوم أي قوة عسكرية بعمليات مكافحة التمرد”، وكان نتنياهو يكره الاستماع، وقد دفع ذلك بايدن الأسبوع الماضي إلى التهديد بقطع تسليم الأسلحة الهجومية إذا واصلت قوات الدفاع الإسرائيلية هجومها الكبير على رفح، المدينة التي تختبئ فيها كتائب حماس الأربع المتبقية بين أكثر من مليون مدني.
في رفضه للنصيحة الأمريكية، تأثر نتنياهو ليس بحلفائه اليمينيين في الائتلاف فحسب ولكن أيضًا بكبار ضباط الجيش الإسرائيلي، الذين لا يكن الكثير منهم، بصراحة، احترامًا كبيرًا للمشورة العسكرية الأمريكية.
ويجادل ضباط جيش الدفاع الإسرائيلي سراً بأن الجيش الأمريكي، بعد تعرضه للهزائم من فيتنام إلى أفغانستان، ليس لديه المكانة لإلقاء المحاضرات عليهم بشأن كيفية محاربة عدو حرب العصابات، كما يشيرون إلى أنه لم تواجه القوات الأمريكية ولا أي قوات أخرى لمكافحة التمرد عدوًا يختبئ في مثل هذه القلعة الهائلة تحت الأرض: فقد قامت حماس ببناء ما بين 350 إلى 450 ميلًا من الأنفاق تحت غزة.
إن الانتقادات الإسرائيلية مقبولة على نحو ما – فقائمة الولايات المتحدة للإخفاقات في مكافحة التمرد على مدى عقود طويلة ومزعجة – ولكن هناك قوة عسكرية أمريكية واحدة على الأقل تمتعت بنجاح مثير للإعجاب في مكافحة التمرد، وستكون تلك هي القوات الأمريكية، بقيادة الجنرال ديفيد بيتريوس (المتقاعد الآن)، التي نفذت “الزيادة” في العراق في عامي 2007 و2008.
عندما بدأت عملية زيادة القوات الأمريكية في العراق، بدا أن محافظة الأنبار قد خسرت أمام تنظيم القاعدة في العراق (الذي كان في ذلك الوقت أحد أكثر الجماعات الإرهابية المتعطشة للدماء على هذا الكوكب)، وبدا أن العراق يتجه نحو حرب أهلية شاملة بين السنة والجماعات الشيعية.
وبحلول الوقت الذي انتهت فيه عملية زيادة القوات، كان العنف الطائفي قد انخفض بنسبة تزيد على 90%، وكان تنظيم القاعدة في العراق قد هُزم إلى حد كبير. (بعد اندلاع الحرب الأهلية السورية في عام 2011 والانسحاب غير الحكيم للقوات الأمريكية من العراق في العام نفسه، ستولد هذه المنظمة الإرهابية من جديد باسم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا).
هناك العديد من الأسباب التي أدت إلى نجاح زيادة القوات، بدءاً من زيادة القوات الأمريكية بمقدار 30 ألف جندي إلى قرار شيوخ الأنبار البارزين بالتخلي عن تنظيم القاعدة، لكن نجاح الولايات المتحدة كان يكمن في تغيير في الاستراتيجية.
قبل الزيادة، كانت القوات الأمريكية تركز على قتل واعتقال أكبر عدد ممكن من المتمردين، لتكتشف أن استخدام الجيش الثقيل للقوة النارية وعمليات الاعتقال واسعة النطاق للذكور في سن الخدمة العسكرية خلقت أعداء أكثر مما تمكنت من القضاء عليهم.
عاد بتريوس وفريقه إلى مكافحة التمرد من خلال تنفيذ استراتيجية “المسح والإمساك والبناء” المصممة على غرار الانتصارات السابقة في مكافحة التمرد مثل حرب بريطانيا في منتصف القرن في مالايا وحرب الولايات المتحدة في الفلبين في مطلع القرن الماضي.
لقد تخلوا عن النموذج السابق المتمثل في “انتقال” القوات الأمريكية إلى القتال والعودة كل ليلة إلى قواعد مترامية الأطراف شديدة التحصين.
في النهج الجديد، وبعد تطهير الأحياء من المتمردين في قتال عنيف، ستبقى القوات الأمريكية في المنطقة على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع لتوفير الأمن ومنع المتمردين من إعادة التسلل، كما ساعدت هذه القوات السكان المحليين على إعادة البناء من ويلات الحرب.
لم يكن هذا دافعاً إنسانياً، بل كان حساباً عسكرياً متشدداً مفاده أن الطريقة الوحيدة للفوز في حرب العصابات هي تأمين السكان.
في الأيام الأخيرة، تواصلت مع بتريوس واثنين من أعضاء فريقه لأسألهم، في ضوء تجربتهم الخاصة في العراق، عن رأيهم في الطريقة الإسرائيلية للحرب في غزة. إنهم جميعاً من المؤيدين المخلصين لإسرائيل، لكنهم ينتقدون بشدة استراتيجية الجيش الإسرائيلي – أو عدم وجودها.
اعترف بتريوس في رسالة بالبريد الإلكتروني بأن غزة “أكثر صعوبة بكثير من الفلوجة والرمادي وبعقوبة والموصل مجتمعة”، في إشارة إلى المدن في العراق حيث قاتلت القوات الأمريكية تحت قيادته، لكنه قال إن “النهج الصحيح هو حملة مدنية عسكرية شاملة لمكافحة التمرد تتضمن المهام التقليدية المتمثلة في التطهير (المناطق التي يتواجد فيها إرهابيو حماس)، والإمساك (الحفاظ على سلامة المدنيين من إعادة تسلل حماس)، والبناء (توفير مساعدات إنسانية وافرة، إعادة الخدمات الأساسية للناس، ومن ثم إعادة بناء المناطق المتضررة والمدمرة العديدة حتى يتمكن السكان من العودة).
المشكلة، من وجهة نظر بتريوس، هي أن “الإسرائيليين لا يقومون بعناصر “السيطرة” و”البناء” في حملة مكافحة التمرد “إنهم يقومون فقط بتطهير المنطقة ويغادرون للقتال في مناطق أخرى. وهذا يعني حتما أنه سيتعين عليهم العودة والتطهير إلى ما لا نهاية”.
وتؤكد التجربة الأخيرة ما يحذر بتريوس منه: ففي 15 نوفمبر/تشرين الثاني، اقتحمت القوات الإسرائيلية مستشفى الشفاء في مدينة غزة، والذي وصفوه بأنه معقل حماس ثم غادروا، وبعد تقارير تفيد بأن المجمع تم استخدامه مرة أخرى كقاعدة إرهابية، عاد الجيش الإسرائيلي في 18 مارس/آذار للقيام بعملية أخرى استمرت أسبوعين.
ركز اثنان من ضباط بتريوس السابقين، وكلاهما من طلاب علم مكافحة التمرد، (كما فعل هو أيضًا) على عدم وجود دولة سياسية نهائية قابلة للحياة للحملة العسكرية الإسرائيلية.
قال اللفتنانت كولونيل المتقاعد جون ناجل، وهو الآن أستاذ دراسات الحرب في الكلية الحربية العسكرية: “لقد فشلت الولايات المتحدة في التفكير بشكل صحيح في نوع السلام الذي أرادت بناءه في العراق وأفغانستان قبل غزو تلك البلدان” واضاف “بدون معرفة ما تحاول تحقيقه، تميل العمليات إلى أن تكون مفككة وتؤدي إلى نتائج عكسية. لقد حان الوقت لإسرائيل أن تتعلم من أخطائنا وأن تفكر بجدية في حل الدولتين مع وجود قوات أمن فلسطينية قادرة على مراقبة كل من غزة والضفة الغربية”.
وفي سياق مماثل، أخبرني العقيد المتقاعد بيتر منصور، مؤلف التاريخ النهائي للزيادة في القوات الاميركية في العراق وأستاذ التاريخ العسكري في جامعة ولاية أوهايو، أن “الإسرائيليين في غزة يرتكبون نفس الخطأ الأساسي الذي ارتكبه الأمريكيون في أفغانستان والعراق: البحث عن حل عسكري لقضية سياسية في الأساس”، فمن خلال مواصلتهم تدمير حماس وتجاهل الأسباب الجذرية للصراع، يعمل الإسرائيليون من خلال أفعالهم على خلق عدد من المقاتلين في المستقبل يفوق عدد المقاتلين الذين يتخلصون منهم على المدى القريب. ومن المحتم أن تنهض حماس 2.0 من رماد القتال الحالي”.
إن المخاوف التي أثارها بتريوس وناجل ومنصور بشأن استراتيجية “التنظيف والمغادرة” الضارة التي تنتهجها إسرائيل صحيحة ومقنعة، والمعنى الضمني هو أنه حتى لو دخل جيش الدفاع الإسرائيلي إلى رفح، فإن القيام بذلك لن يؤدي إلى نصر دائم ضد حماس. إن تحقيق النصر الحقيقي في هذه الحرب يتطلب إنشاء نوع ما من الحكومة في غزة القادرة على كسب دعم الشعب ومنع حماس من العودة بعد انسحاب الجنود الإسرائيليين، ولكن لا يبدو أن مثل هذا الحل قيد التنفيذ.
ويرفض نتنياهو تأييد أي دور للسلطة الفلسطينية في غزة أو قبول أي خريطة طريق لإقامة دولة فلسطينية، وهذا يجعل من غير المرجح أن ترسل الدول العربية المعتدلة قوات حفظ السلام أو تقدم مساهمة كبيرة في جهود إعادة البناء.
على المدى القصير، فإن الطريقة الوحيدة لتجنب الفوضى الكاملة – اخفاق من نوع الإخفاق الاميركي في مقديشو ولكن على البحر الأبيض المتوسط - هي أن تتولى القوات الإسرائيلية مسؤولية الأمن والحكم بنفسها، لكن الجيش الإسرائيلي، الذي مزقته ذكريات الاحتلال الإسرائيلي الباهظ الثمن الذي دام عقدين من الزمن لجنوب لبنان، ليس لديه أي رغبة في التحول إلى قوة احتلال، وهذا أمر مفهوم، ولكن النتيجة هي أن إسرائيل تشن حرباً من المرجح أن يؤدي النجاح التكتيكي فيها إلى فشل استراتيجي.
وجد الباحثون في مؤسسة راند أنه في حين أن استراتيجيات “التطهير والإمساك والبناء” تتطلب التزامات طويلة ولا تنجح دائمًا، فإن نهج “القبضة الحديدية” من النوع الذي تستخدمه إسرائيل – والذي يركز بشكل شبه حصري على قتل المتمردين – كان أقل نجاحًا بكثير تاريخيا.
لقد نجحت استراتيجية “القبضة الحديدية” في 32% فقط من الحالات التي درستها راند، مقارنة بمعدل نجاح بلغ 73% في عمليات مكافحة التمرد التي تركز على السكان، وهذا ما كانت إدارة بايدن تحاول إخبار نتنياهو وآلة حربه به.
الرسالة الأساسية للولايات المتحدة هي أن إسرائيل لديها كل الحق في الدفاع عن نفسها، لكنها بحاجة إلى أن تكون أكثر ذكاءً بشأن كيفية قيامها بذلك غير ان نتنياهو يعتقد أنه يعرف أفضل، ومن هنا يأتي المأزق بين المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين بشأن عملية رفح، وأياً كانت الطريقة التي يتم بها حل هذا الخلاف، فسوف تحتاج إسرائيل في نهاية المطاف إلى معرفة من سيحكم غزة، وإلا فإن حماس أو أي جماعة متطرفة أخرى سوف تخرج ببساطة من تحت الأنقاض، وستجد إسرائيل نفسها قد عادت إلى حيث بدأت.