قبل أن يشرد عقلك بعيدا، موضوعنا اليوم يدور في عصر الخديو اسماعيل، وحديثنا سيخص تحديدا شخصية مثيرة للجدل الا وهي اسماعيل المفتش، وان كنت لا احب مصطلح مثير للجدل هذا، فغالبا ما يطلق ظلما وعدوانا على شخص لا يستحق بسبب ان له اعداء كتبوا قصته بعد ان مات، او كتب قصته من انتصر عليه، والغريب اننا مثلا لا نطلق مثير للجدل على الاسكندر الاكبر رغم المذابح التي قام بها، ولا على نابليون رغم اطماعه وغروره الواضح الخ الخ، بل وكثيرا ما ينظر اليهم باعتبارهم عظماء.
شهد عصر الخديو اسماعيل نهضة كبرى لا ينكرها الا جاحد، اصلاحات ادارية وقضائية، مدارس جديدة وبعثات للخارج وتعليم للفتيات لأول مرة، التوسع في السكة الحديد والطرق، ترع جديدة وزيادة ضخمة للرقعة الزراعية قدرت بملايين الافدنة، مستشفيات جديدة ومصانع، الاهتمام بالفنون والاوبرا والمسرح، وانشئت وسط البلد في ذلك العهد، وضمت مصر اراض جديدة في السودان واريتريا والحبشة بل وفي الصومال، كل هذا الى جانب قناة السويس بما لها وما عليها. لكن المستغرب ان يلي كل هذا انتكاسة رهيبة وديون متراكمة وتدخلات اجنبية انتهت بازاحة الخديو نفسه حتى وصلنا الى احتلال عسكري واضح لكل أرض مصر والسودان.
ما يواجهنا عند دراسة عصر الخديو اسماعيل هو نقص وندرة بل وانعدام الوثائق تماما والتي ربما قد دمر بعضها عن عمد، فنجد لشخصيات تلك العصر كلها بلا استثناء روايتان، رواية هو فيها شرير ومجرم ورواية هو فيها وطني مخلص عظيم، ينطبق الامر على الخديو نفسه ثم على اسماعيل المفتش وحتى على علي باشا مبارك وغيرهم، وللأسف غالبا ما تسود رواية واحدة دونا عن الأخرى حسب هوى الباحث او المؤلف لو كان الأمر يتعلق بكتاب او بعمل درامي مثلا كمسلسل تلفزيوني أو فيلم، وهو أمر لا يجعلنا منصفين ابدا في النظر لتاريخنا.

الخديو اسماعيل مثلا تم التجني عليه في اعمال درامية مثل فيلم المظ وعبده الحامولي والتعريض به في مسرحية سيدتي الجميلة، ثم حاول مسلسل بوابة الحلواني انصافه واعطاء صورة متوازنة عنه لكنها جاءت على حساب اسماعيل المفتش حيث تم تحميله اخطاء العصر وتبني رواية اعداؤه عنه، مثلا يقول الفنان اسامة عباس انه لما عمل دور اسماعيل المفتش في بوابة الحلواني: “احتجت أقرا كتب كتير علشان أقدر أطلع شخصيته بالشر ده“! كانه مش كفاية اللي عمله محفوظ عبد الرحمن مؤلف المسلسل، والحقيقة ان مؤلف المسلسل برضه لا يلام اذا كانت مصادره هي علي باشا مبارك وعبد الرحمن الرافعي وجمال حمدان وجمال بدوي.

ولد اسماعيل المفتش في عزبة ابوه التركي في الصعيد، وأبوه هو دونالي مصطفى اغا باشا وكان من قادة الجيش، وامه ايضا تركية وهي هوشيار هانموصيفة الوالدة باشا خوشيار هانم زوجة ابراهيم باشا ابن محمد علي، وكبيرة وصيفات القصر ومرضعة الخديو اسماعيل، مما يعني ان هو واسماعيل اخوة في الرضاعة، ولم تكن فلاحة ولا شحاذة، هذا ما تقوله حقائق التاريخ، لكن اختار علي باشا مبارك ان يقول عليه انه من اسرة من سكان العشش! اما عبد الرحمن الرافعي فقال عليه انه نشأ في بيئة عوز وفقر! ونفس الكلام قاله جمال حمدان! فما سر هذا الافتراء؟ بل ان الافتراء امتد خارج مصر حيث يقول المؤرخ الأمريكي آدم ميستيان والبروفيسور في جامعة ديوك وكذلك المؤرخ الامريكي روبرت هانتر ان ام المفتش كانت جارية عربية! وهي معلومة لا اعرف من اين اتوا بها، ويقول روبرت هانتر ان اسماعيل كان اول موظف غير تركي يتقلد هذا المنصب الرفيع رغم انه يعلم ان ابوه قائد الباني تركي في الجيش!

يعتبر علي باشا مبارك هو المؤرخ الرسمي للخديو اسماعيل، وعلى الرغم من كل اعماله الجليلة الا انه في النهاية مؤرخ الدولة وكاتب بروبجاندتها، كان علي مبارك ناظرا للاشغال العمومية وكانت السكة الحديد تابعة له، لكن اسماعيل المفتش كمفتش عام وله الصلاحية ارتأى ان يضم السكة الحديد لوزارة المالية، وبالتالي طارت ايرادات السكة الحديد الوليدة التي كانت تدر ارباحا تتزايد من يد علي باشا مبارك مما اوغر صدره ضد اسماعيل المفتش، كما ان اسماعيل المفتش اتهم علي مبارك بالفساد المالي والاداري امام الخديو حتى ازاحه من مناصبه.فطبيعي ان يكتب مبارك ما كتبه في حق المفتش كنوع من الثأر أو “الصورم“ كما نقول بالعامية، وهنا يمكن ان نقول ان الرافعي وحمدان وحتى جمال بدوي نقلوا نقلا عميانيا من علي مبارك بدون تدقيق ما قاله عن المفتش.

تصوير وائل عباس
يقول اسماعيل باشا صدقي رئيس وزراء مصر الاسبق في مذكراته ان والده اسماه اسماعيل تيمنا باسماعيل باشا المفتش الذي كان محبوبا من الشعب في تلك الفترة، وكان الجميع يظنونه مصريا لا تركيا بسبب ميله نحو المصريين اكثر، فقد تربى في الصعيد وسط الفلاحين واحبهم واكتسب طباعهم وكان دائم الدفاع عنهم وعن حقوقهم، وظهر ذلك حتى في ادارته فقد كان حريصا على استبدال الموظفين الاتراك بموظفين مصريين وكذلك تمصير الدواوين واستخدام اللغة العربية بدلا من العثمانلية، وهذا بالتأكيد أمر سيغضب كثيرين من اصحاب المصالح.وفي احد مكاتباته يقول اسماعيل المفتش: “ان الهدف من تعيين ابناء البلاد المصريين هو لأجل قيامهم بأشغال ابناء وطنهم والسعي لما فيه راحة ونجاح أمورهم ومنع التعدي والظلم الواقع على الأهالي“.
وكان من الالقاب التي اسبغت على اسماعيل المفتش لقب الخديو الصغير والصدر الاعظم لمصر اسوة بالصدر الاعظم للخلافة العثمانية، بحسب المؤرخ الياس الايوبي في كتاب تاريخ مصر في عهد الخديو اسماعيل باشا، وكان دائم السفر الى اوروبا وتركيا وصديق لشخصيات اوروبية عديدة، وحاصل على النيشان العثماني من الخليفة، الا ان الاوروبيين ايضا كان لهم دور في تشويه صورته لاسباب مفهومة طبعا كحجر عثرة يقف في طريق خططهم في مصر، وهنا مثلا يقول السير تشارلز ريفرز ويلسون الذي عين وزيرا للمالية في مصر كنتيجة للديون، يقول في مذكراته ان اسماعيل المفتش كان لا يتحدث الا العربية ولا يجيد كتابتها ولم يحصل على تعليم كافي، وطبعا لازم يقول كده لانه ورث منصبه، وهو امر تنفيه الدكتورة مروة عباس حفيدة اسماعيل المفتش عن جدها وتقول انه كان يتكلم عدة لغات مثل أمه، بل كانت مكتبته الشخصية تزخر بعديد من الكتب باللغات الاجنبية.
اشاد احمد عرابي في مذكراته باسماعيل المفتش وقال عنه “المرحوم الشهيد المخنوق في خرائب دنقلة“، وقال انه طلب ان يدخل في خدمة المفتش ولا يريد العمل مع الاتراك والشركس وهو امر اجابه المفتش فيه، وكذلك اعتبره العرابيون واحدا من الزعماء الوطنيين حيث يزعمون انه كان يرفض سياسة الاستدانة وانه قال انه يمكن سداد الديون بشيء من تنظيم مالية البلاد حتى لا يتدخل الاوروبيون بينما كان للخديوي حسابات اخرى اذ كان يريد ان يكسبالاوروبيين في صفه في صراعه ضد الخلافة العثمانية، وفي هذا الامر يقول المفكر لويس عوض عنه ايضا انه “راح ضحية الصراع الأوروبي على مصر وأنه دفع حياته ثمن موقفه الوطني ضد التدخل الأوروبي في مصر“، وقيل ايضا ان المفتش رفض اعطاء المراقبين الاوروبيين اسرار مالية مصر وهو ما اغضب الخديو عليه.
لم يأت الانصاف فقط من عرابي ولويس عوض، فالمستشرق الانجليزي ويلفرد بلنت في كتابة التاريخ السري لاحتلال انجلترا لمصر يقول ان اسماعيل المفتش ايد الحراك ضد تدخل مستر جوشن ومسيو جوبير وحاول اقناع الخديو بالرفض والمقاومة، وعندما قتل المفتش كتب مراسل التايمز في الاسكندرية ان النظام العتيق انتهى وانتهت معارضة التقدم والمدنية ونجحت المساعي البريطانية، وحتى ريفرز ويلسون الذي هاجم المفتش في مذكراته كما ذكرنا ينصفه في جزء اخر من المذكرات حين يقول ان الخديو اسماعيل قتله لانه كان يخشى ان يكشف فساده.
بحسب كتاب “اسماعيل صديق المفتش رجل الازمات ضحية الوشاية“ لجمال عبد الرحيم والذي كان في الاصل رسالة ماجستير اكاديمية، اظهر المفتش مهارته منذ بداية عمله في الحكومة، وعندما عينه الخديومفتش للاقاليم البحرية نجح في ادارة تفتيشها وانشأ نظام للكشوف اعجب به الخديو فقرر تعميمه في كل مصر، ولأول مرة قام المفتش بتوزيع اطيان على الاهالي من المصريين في الشرقية ودمياط لزراعتها، بينما احكم سيطرة مصر على اطيان الاجانب لتجنب تهربهم من الرسوم والضرائب، ومنع انشاء وابورات حلج القطن للاجانب بدون تراخيص وشجع وابورات الحلج المصرية، كذلك اوقف المفتش استيراد الورق بانشاء مصنع له في مصر حتى ان انتاج المصنع كان يفيض ويتم تصديره.
حاول اسماعيل المفتش الحد من العمل بالسخرة التي كانت تفرضه الحكومة على المصريين في مشاريعها مثل حفر قناة السويس وحفر الترع وبناء السكك الحديدية، فأعفى من تعدى سن الاربعين وكذلك الاطفال واعفى خدام المساجد والكنائس وارباب الحرف والكارات والتجار والكتبة والموظفين. وكان البدو خصوصا في الصحراء الشرقية حياتهم قائمة على قطع الطريق والسلب والخطف، فقام اسماعيل المفتش بحملات ضدهم وصادر اسلحتهم، لكنه في نفس الوقت اعطاهم اراض ليزرعوها ويتوطنوا فيها لكن لا يمكن لهم ان يبيعوها او يرهنوها، وهو امر غير من عاداتهم الاجتماعية وجعلهم مستقرين ومنتجين.
اقام اسماعيل المفتش وليمة في مولد السيد البدوي في طنطا ودعا اليها كبارات مصر من اول العائلة المالكة ونظار الوزارات حتى الاعيان والعمد والمشايخ، جمع فيها التبرعات لانشاء المدارس بالجهود الذاتية حتى يخفف الضغط على ميزانية الحكومة التي توقفت بالفعل عن دعم التعليم، وكان من نتيجة تلك الحملة التي بدأها والتي شملت تبرعات من كل انحاء مصر انشاء 4500 مدرسة، وهو امر ينسب الى علي باشا مبارك في اجحاف تاريخي غير مسبوق، بل كان يطبع الكتب على نفقته الخاصة، وكذلك توسع في تعليم الاقباط وانشاء المدارس التابعة للبطرخانة لهم بموافقة من الخديو.
دعونا نتعرف على طريقة ادارة اسماعيل المفتش لاموال الدولة وهل كان امينا عليها ام لا، وذلك عن طريق وثيقة نادرة تحمل ختم اسماعيل المفتش تعود الى سبتمبر 1866 بعنوان البوستة الميري ومرسلة الى مدير البوستة الميري موتسي بك ورد بها:
“تصرف مبالغ لزوم بوستة الرمل مثل أجرة وابور السكة الحديد الموصلة من إسكندرية لحد الرمل لنقل المكاتيب ومُقنن لهذة الأجرة كل 6 شهور مبلغ 7500 قرش بحكم الشهر الواحد مبلغ 1250 قرشا وماهية الوكيل شهرياً 1000 قرشا وأجرة محل لإقامة البوستة 2925 قرشا فى السنة ومصاريف أخرى، وبملاحظة إيراداتها وجد أن الإيراد اليومى يتراوح بين 30 و60قرشا فقط وأنه جار خصم العجوزات وأنه يُعلم أن الجوابات الواردة والصادرة من والى جهة الرمل شئ قليل ولم يكن مستحق ترتيب مصروفات تزيد على الإيرادات، وحيث من المعلوم بطرفنا أنه على حضراتكم حصول البراح والرواج لجهة المصلحة فلزم تحريره لعزتكم لكى يُحسن همتكم بعمل الطريقة اللازمة التى ينتج عنها حصول البراح وعدم ظهور عجوزات“.
التوسع العمراني والاقتصادي والمشاريع الضخمة يستتبع الاستدانة من الخارج عندما لا تكفي موارد الدولة، لكن الاستدانة سيف مسلط على رقبة مصر، يستتبع بدوره تدخلات اجنبية، وللتغلب على هذا الامر ينبغي وجود ارادة سياسية وادارة جيدة، وهما الامرين الذين اصطدما ببعضهما في قصتنا هذه، ويمكننا ان نقول إن إسماعيل المفتش ربما كان يمكنه الحد من معدل الاستدانة عن طريق إصلاحات إدارية ومالية، لكن منع الاستدانة تمامًا كان يتطلب تغييرات أكبر في السياسات الاقتصادية والسياسية للدولة، وكذلك تحدي الضغوط الدولية التي كانت تؤثر على مصر في ذلك الوقت، وهو الأمر الذي كان بيد الخديو وحده.
الاتهامات الموجهة لاسماعيل المفتش بالفساد والرشوة والتربح، وانه كان يبيع الوظائف، وانه كان المتسبب في الديون الخ، توجه اتهامات مثلها لغريمه علي باشا مبارك واخرون من رجال ذلك العهد، وكذلك للخديو اسماعيل نفسه، لكن من كان منهم على صواب ومن كان منهم على خطأ أتركه لكم لتستنتجوه مما استطعت استخراجه بالبحث في الحقائق التاريخية وما ذكره المؤرخين والوثائق، ليس حبا في اسماعيل المفتش لكن من باب الانصاف وتجنب العواطف والانجراف بدون منهج علمي في تيار من التشويه المتعمد لرجل ربما كان ليكون طوق نجاة لمصر وقتها والله أعلى وأعلم.
وائل عباس