انتشر بوست على السوشيال ميديا حول المستعصم آخر خلفاء العباسيين يحمل المستعصم كل رذائل غزو المغول لبغداد، ويغالي في وصف فساد المستعصم، وأنه كان لديه نهر مطمور من الذهب المتجمد، و700 جارية وسرية من الحسان، توسل إلى هولاكو أن يحتفظ بهم، وقال ايه هولاكو قاله الأموال دي كان ممكن تنقذ الأمة، ولو كنت اعطيتها لشعبك كانوا حموك مني، كلام يبان إن كله استوعاظ على رأي المعلم رضا، لكن الغرض من البوست هو النيل من ملوك الخليج وكنزهم للأموال وابتزاز أمريكا لهم لأخذها خصوصا بعد تصريحات ترامب الأخيرة.

ربما يكون الغرض من ذلك البوست نقدي أو نبيل أو معارض حتى، أو رسالة وعظية لحكام المسلمين عموما، لكن للأسف مليان مغالطات تاريخية، بل وتبني لروايات العدو والبروبجاندا التي شنها على الخلافة العباسية ونشر لرواية المنتصر على المهزوم على حساب الحقيقة، وكثيرا ما نفعل نحن ذلك في عصرنا هذا فنلتقم رواية العدو وننشرها على أنها مفيدة للقضية، فنضر أنفسنا وقضيتنا بروايتهم هم.
لذا أجد من المفيد هنا عقد مقارنة بين امبراطورية المغول الفتية الناشئة والخلافة العباسية المترهلة المهترئة في آخر مراحلها، من باب تلك الأيام نداولها بين الناس، قبل أن أعرج على المستعصم وسيرته كما كتبها المؤرخون المعاصرون للخلافة وما بعدها وكذا مؤرخو المغول.

سيطر جنكيز خان على منغوليا كاملة ووحد المغول والتتار وكل القبائل ثم زحف على الصين ليستولي على شيا والتبت وبلاد الاويغور، ثم عبر صحراء جوبي ليستولي على مملكة جين، دمر المغول كل تلك الممالك المستقلة والحقوها بامبراطوريتهم قبل ان يلتحموا بالمسلمين.
فهل كانت دولة الاسلام موحدة تحت الخلافة العباسية؟ الاجابة بالطبع لا، فقد كانت هناك الدولة الخوارزمية التي التهمها المغول اول ما التهموا، وهي كانت دولة قوية التهمت بدورها السلطنة الغورية، وكانت هناك الدولة الايوبية في مصر التي ورثها المماليك فيما بعد، وكان هناك الزنكيون وسلاجقة الروم، اما شمال افريقيا والاندلس فكانت تحت حكم الموحدين، اما خليفة المسلمين فكان معه العراق فقط.
بل أن المغول كونوا اسرة يوان التي حكمت الصين لمدة 200 سنة بعد هزيمتهم لأسرة سونج، وقضوا على الحشاشين واستولوا على قلاعهم واهمها قلعة الاموت، واباد سوبوتاي الجيش الروسي بالكامل ودمروا مدينة كييف، ثم احتل المغول المجر وكرواتيا وبولندا وبلغاريا وجعلوا تلك الدول تدفع الجزية لهم، وسحقوا فرسان المعبد والفرسان التيوتونيون اساطير الفروسية والحروب الصليبية الذين روعوا العالم في تلك الفترة، كل هذا حدث قبل دخول بغداد.
كلنا درسولنا في المدرسة ما يسمى بالعهد العباسي الثاني، او عهد نفوذ الاتراك، وشفنا السلاجقة وهم بيحكموا فعلا الامبراطورية بينما الخليفة في بغداد مجرد شرابة خرج، وانا شرحت ده في نقدي لمسلسل الحشاشين في رمضان اللي فات، عسكر اجانب بيتمردوا على الدولة، ولاة بيستقلوا بولاياتهم، زي الطولونيين والاخشيديين في مصر مثلا، ده حتى في عصرهم ظهرت خلافة تانية شيعية سيطرت حتى على مكة والمدينة والشام منهم وهي الخلافة الفاطمية، اللي استولت على بغداد نفسها لمدة سنة وده سبق وشرحته في سلسلة حلقات الدولة الفاطمية، ده طبعا غير الفساد المالي والتراجع العلمي.
الخلاصة ان الخلافة في بغداد كانت مجرد مظهر ديني يجب الاحتفاظ به، لازم يكون عندنا امير للمؤمنين علشان محدش يقول حاجة، على رأي عبد المنعم مدبولي في فيلم الحفيد: “لازم يكون فيه بوفتيك علشان محدش يقول حاجة”، لدرجة انه بعد سقوط بغداد الخلافة العباسية حرص المماليك انها تستمر من القاهرة، وعين الظاهر بيبرس المستنصر بالله الثاني خليفة عباسي من القاهرة بعد خلو منصب الخليفة لسنوات، تبعه الحاكم بأمر الله الأول والمستكفي بالله والواثق بالله والحاكم بأمر الله الثاني في عهد كجك وأخيرا المعتضد بالله، وبقى القاهرة فيها سلطان مملوكي وخليفة عباسي، وبقى ليهم مدفن خلف مسجد السيدة نفيسة موجود حتى الآن.

لكن من أين جاءت قصة ال700 جارية؟ ونهر الذهب؟ وبحيرة الذهب الأحمر؟ ابحث عن رشيد الدين فضل الله الهمذاني، وهو مؤرخ مهم ومصدر لتاريخ المغول يستخدمه كل المؤرخين حول العالم، وانا شخصيا استخدمه كمؤرخ، لكن المؤرخ هو ايضا وليد عصره يتأثر به وبأحداثه ويميل مع من يحكم او ضده حسب الهوى، ورشيد كان هواه مغوليا، فقد كان رجل سياسة أيضا لانه كان وزيرا لإيلخانية غازان – بعد ان اعتنق محمود غازان الاسلام وهو احد احفاد جنكيز خان – حيث كلف وقتها بكتابة تاريخ المغول، اي ان كتابته للتاريخ كانت عمل سياسي بالدرجة الأولى وهذا يسمى في كليات الاعلام بالبروبجاندا، ثم اصبح الوزير الاعظم للبلاط الإيلخاني، وحتى ابنه غياث الدين عمل كوزير بعده.
وهنا تظهر اهمية القراءة النقدية للتاريخ، وكما يقول الانجليز يجب ان نضع قليلا من الملح ونحن نقرأ، فمهم ان نستخدم منهج تاريخي، وان نعرف مدى قرب المؤرخ أو بعده عن الاحداث مكانيا وزمانيا، وكذا قربه من اهل السياسة والمال ومن كان يمول كتاباته، فكما في علم الحديث من المهم ان نعرف شخصية الراوي وسيرته حتى نصدقه او نكذبه ونضعف روايته، فكذلك التاريخ، وقد سبق وكتبت عن هوى شكسبير السياسي في رواياته التاريخية.
مؤرخ تاني معاصر للمستعصم وهو ابن انجب الساعي وكان خازن كتب المدرسة المستنصرية ببغداد، وده بيتوفر فيه القرب المكاني والزماني، تعالوا نشوف بيقول ايه عنه: “كان له جاريتان قبل الخلافة، له من إحداهما ثلاثة بنين وبنت، ومن الأخرى أربع بنات، فلما أفضت الخلافة إليه لم يتغير عليهما ولا أغارهما بل راعهما حفظًا لعهدهما، ثم طلبت منه أم البنين أن يعتقها ويتزوجها ففعل ذلك، فلما ماتت استجد بأخرى وحَظيت عنده فلم يعترض بغيرها وجاء منها بولد ذكر، وطلبت منه أيضًا أن يعتقها ويتزوجها ففعل ذلك، هذا فيما يرجع إلى حسن العشرة وحفظ العهد ومراعاة الصحبة والوفاء”.
لم يكن الساعي فقط هو من أحسن القول عن المستعصم، فهناك أيضا ابن قنيتو الاربلي مؤلف خلاصة الذهب المسبوك، وكذا الشيخ ظهير الدين بن الكازروني مؤلف روضة الأديب في التاريخ وقد عاصر الغزو المغولى ورأي الأهوال التي حدثت بأم عينه، حيث تحدثا عن تدينه وتقواه وهي أمور قد لا تهمنا في سياق السياسة والحرب، فوجود خليفة متدين وخلوق لكنه ضعيف في تلك الأمور يقود الى الكارثة كما رأينا.
يقول المؤرخ قطب الدين اليونيني في مختصر مرآة الزمان عن المستعصم: “كان متدينًا متمسكًا بالسنة كأبيه وجده ولكنه لم يكن مثلهما في التيقظ والحزم وعلو الهمة”، وانه كان له اخ اسمه الخفاجي كان هو الأجدر بالخلافة لشجاعته وبسالته، لكن عندما توفي المستنصر اختار كبار الدولة المستعصم لانه اسهل في السيطرة عليه من الخفاجي، ثم اصبح المستعصم لعبة في يد العلقمي وزيره، الذي ساعد المغول فيما بعد.

ويقول بن عثمان الذهبي عن سقوط بغداد في كتاب تاريخ الاسلام ووفيات المشاهير والاعلام: “وبقي السيف في بغداد بضعة وثلاثين يوما، فأقل ما قيل: قتل بها ثمان مائة ألف نفس، وأكثر ما قيل: بلغوا ألف ألف وثمان مائة ألف، وجرت السيول من الدماء، فإنا لله وإنا إليه راجعون”
وقد يقول قائل ان المؤرخ الهمذاني كان يهوديا ثم أسلم لوضع بهارات المؤامرة اليهودية في القصة كالعادة، لكن ماذا سيقول عن الوزير مؤيد الدين بن العلقمي وهو عربي مسلم مأصل من بني أسد؟ ولم يمنعه اصله ونسبه ان يتواطأ مع المغول ضد الخلافة طمعا في الإمارة؟ ولكن حتى العلقمي اختلف المؤرخون في خيانته، فابن كثير وابن تغري وابو شامة والبعلبكي والكتبي والسبكي وصموه بالخيانة والعمالة للمغول، ووصفه شمس الدين الذهبي والدياربكري بالرافضي، بينما تأتي البراءة من الهمذاني لكن طبعا في شكل القاء اللوم على الخليفة المستهتر المستعصم، الذي أجد انه من باب الإنصاف ذكر حقيقته كما تيسر لي من قراءة مصادر مختلفة والبحث فيها عن الحقيقة.