أن مقدمات وإرهاصات ” طوفان الأقصي ” ، تؤكد ما سبق أن حاولت التدليل عليه في عشرات الأبحاث والمقالات ، وبعضها كان عملا رسميا ..”كامب ديفيد ” لم تصنع سلاما ، بل كانت تمهيد لغزو صهيوني ، وفاتح لشهية التوسع في الإقليم ، لحين توافر الفرصة للإنقضاض علي كل من دخل ” خيمة الكامب ” ، تماما مثلما فعل هتلر مع كل من قبلوا بسلامه المخادع ، فقد انقلب عليهم واحدا واحدا دون أن يمنعه وازع أخلاقي أو تعاهدي .
ورغم وجود فوارق هائلة بين كامب ديفيد و ميونيخ ، فإن أوجه الشبه كثيرة ، خاصة فيما يتعلق بطبيعة وحجم ما ترتب علي هذين الإتفاقين .
ومن أهم أوجه الشبه ، أن الطرف الصهيوني حقق من خلال ” صيغة ” كامب ديفيد ما عجز أن يحققه بالسلاح ، فضلا عن أن تلك الصيغة عالجت الآثار النفسية السلبية الهائلة علي المجتمع الصهيوني بعد مفاجأة العبور ، والخسائر التي منيت بها قواته بشكل غير مسبوق ، وهو ما يشبه – مع الفارق – الأثر النفسي الذي ترتب في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولي .
لقد كانت الوظيفة الأساسية لإتفاق ” ميونيخ ” هي خلخلة وإضعاف القوي الفاعلة في أوروبا ( وخاصة بريطانيا وفرنسا والإتحاد السوفييتي ) ، كي يسهل لألمانيا التهام الشرق الأوروبي دولة تلو الأخري دون تدخل يذكر من تلك القوي .
ومن الثابت وفقا لما توفر من وثائق سرية عن الحرب العالمية الثانية ، أن الرقص الدبلوماسي الذي سبق هذه الحرب ، وعلي حافتها تماما ، شهد خطوات مرتبكة لقوي أوروبا الرئيسية ، لدرجة تحير معها جوزيف ستالين الذي كان يقبع في الكرملين ، يتابع حفلة ” ميونيخ ” ، التي لم يدع إليها ، فقد كانت كل الأطراف آنذاك لا ترغب في وجود الإتحاد السوفييتي في تلك المفاوضات المفصلية .
وقد كان لكل طرف أسبابه ، فقد كانت ألمانيا في خطابها الرسمي ( وعلي لسان هتلر نفسه ) تعادي الشيوعية علانية ، بينما كان تشمبرلين العجوز رئيس وزراء بريطانيا العظمي ، يميل – وفقا لشواهد متعددة – إلي توريط النازي في حرب ضد الشيوعية ، فيخلص العالم من الشرين في آن واحد ، أما فرنسا فقد كانت بموروثها التاريخي لا ترغب في وجود أي علاقات مع الإتحاد السوفييتي ، بغض النظر عن الخلاف الأيديولوجي ، فلم يكن قد مر زمن كاف علي الهزيمة المذلة التي لاقاها جيش نابليون ، والإنسحاب المهين لبقاياه الممزقة ، بالشكل الذي أنهي عمليا الإمبراطورية الفرنسية .
ورغما عن ذلك ، فقد كان ستالين ، وبتشجيع كبير من وزير خارجيته ( اليهودي ) ليتنوف ، يميل إلي إبرام تحالف مع الغرب لمواجهة التمدد النازي الزاحف إلي شرق أوروبا ، إلا أن بريطانيا قابلت الإقتراح الذي قدمه السفير السوفييتي في لندن ببرود وعدم إهتمام ، بما أدي – كما تفصح الوثائق السرية – إلي اتخاذ ستالين عدة قرارات حاسمة كان أبرزها إقالة وزير الخارجية الذي يميل للغرب ، وتعيين رفيقه ” مولوتوف ” مكانه ، كي تبدأ الرسائل الدافئة ما بين موسكو وبرلين ، والتي تطورت إلي توقيع إتفاق تحالف إستراتيجي سمح لهتلر تأمين جبهته الشرقية ، قبل أن يستدير بعد احتلال بولندا بكل ما تملكه آلة الحرب النازية كي يدوس في طريقه الدنمارك والنرويج وبلجيكا وهولندا ، ثم يحتل فرنسا .
لقد كانت وظيفة ” إتفاق ميونيخ ” ، هي نفس وظيفة ” إتفاق كامب ديفيد ” ، التي أضعفت الجبهة العربية المتحدة ، التي شهدت أوج تماسكها إبان حرب العبور ، وأسفرت عن إشهار سلاح البترول العربي في وجه العالم ، لأول مرة في تاريخ الصراع العربي / الصهيوني ، حتي أسهمت ” صيغة ” كامب ديفيد في تمزيق الصف العربي ، بل إن غياب مصر كان دائما من أولويات الفكر الصهيوني كي يفترس الكيان الصهيوني باقي الدول العربية في الإقليم ، بعد أن تم ضمان تأمين الجبهة المصرية ، تماما كما فعل النازي لتفادي الحرب في جبهتين..
لقد فقد العرب في صراعهم مع الكيان الصهيوني الدرع والسيف الذي كان محفوظا عبر التاريخ لدي مصر ، التي لعبت أبرز الأدوار دفاعا عن المصالح الحيوية في المنطقة خلال منعطفات التاريخ المتعددة .
كان درس ” ميونيخ ” الذي دفع العالم ثمنا باهظا له ، لا يختلف عن درس ” كامب ديفيد ” فيما يتعلق بالتفاوض ، فحين يتمكن طرف من فرض أغلب مطالبه علي الطرف الآخر ، ويجبره علي قبولها دون أي تعديل ، فلا يمكن الإعتداد بها كمفاوضات بالمعني الفني الدقيق ، كما أن الإتفاق الذي تسفر عنه ، لا يمكن أن يعد معاهدة دولية صحيحة ، فهي مجرد ” عقد إذعان ” لصالح الطرف الأقوي ، وبالتالي فهو عقد باطل أو قابل للإبطال .
لقد كان عفريت الحرب العالمية الثانية يكمن في صيغة أو توليفة ” ميونيخ ” ، مثلما يكمن عفريت الحرب الكبري المحتملة في الشرق الأوسط في صيغة أو توليفة ( أو تلفيقة ) كامب ديفيد .