كانت سماء أوروبا لا تزال ملبدة ببقايا السحب السوداء التي خلفتها الحرب العالمية الأولى، حين انتهى مؤتمر فرساي الذي وضع أسس الحفاظ على السلام الدولي، وشهد أيضًا الحلم المثالي الممتد للرئيس الأمريكي “ودرو ولسن” بشأن “مأسسة” السلام بإنشاء “عصبة الأمم” (والتي رفض الشعب الأمريكي نفسه عضويتها مكتفيًا بعزلته الذهبية).
وفي ظل الأجواء الوردية التي سادت العالم آنذاك، وبين صخب تبادل الأنخاب الذي شهدته احتفالات باريس بما تحقق، لم يلتفت الكثيرون إلى تصريح القائد العام للقوات الفرنسية المارشال “فوش” الذي قال فيه: “إن هذا ليس سلامًا، وإنما مجرد هدنة طويلة قد تمتد لعشرين عامًا فقط!” وكأنها كانت نبوءة مبكرة بما سيحدث فعلًا بعد عشرين عامًا.
ولكن، كيف كان لأحد أن يتخيل أن أوروبا، التي خرجت مضعضعة بعد حرب منهكة فقدت فيها زهرة شبابها، يمكن أن تنزلق مرة أخرى إلى الحرب؟
غادر الدبلوماسيون قاعات فرساي فخورين بما حققوه، وخاصة بعد أن قدموا للبشرية أول تنظيم دولي منضبط في شكل “عصبة الأمم”، وتضمنت معاهدة فرساي مبادرة وقواعد المحافظة على ديمومة السلام من خلال عدة آليات، أهمها الحد من التسلح وتكبيل ألمانيا بتعويضات باهظة تدفعها إلى الدول التي تأثرت بعملياتها العسكرية، والتي تضمنت نصيب الأسد لفرنسا، التي رأت أن مواصلة هذه العقوبات على ألمانيا هو الضمان الأساسي لحفظ أمن فرنسا.
لم يكن الدبلوماسيون يفخرون فقط بما تقدم، بل هنأوا أنفسهم على صياغة مفهوم جديد يحل محل نظرية “توازن القوى” التي فشلت في منع الحرب.
وكان هذا المفهوم الجديد هو “نظام الأمن الجماعي”.
عاد كل وفد إلى بلاده محملًا بجوائز السلام، والتي كان من أبرزها “الحد من التسلح” على أساس أن سباق التسلح هو أحد أهم أسباب نشوب الحروب.
ولكن، يبدو أنهم في غمرة تبادل الأنخاب لم ينتبهوا إلى عدم وجود آلية للتفتيش على مدى التزام الأطراف بحدود التسليح التي نصت عليها المعاهدة، كما لم يدركوا أن حجم التعويضات الباهظة المفروضة على ألمانيا يمثل قنبلة موقوتة قد تفجر الموقف كله فيما بعد.
على كل حال، بدأت ألمانيا منذ البداية في إبداء التململ من وطأة التعويضات المبالغ فيها على اقتصادها، وهددت غير مرة، بشكل مباشر أو غير مباشر، بأنها لن تلتزم بها.
كما واصلت الشكوى من انعدام العدالة فيما يتعلق بنزع سلاحها وفرض حجم معين لقواتها، وطالبت بأن يسمح لها بأن يكون لديها ما يكفي للدفاع عن نفسها.
إلا أن فرنسا، التي كانت أكثر الدول الأوروبية تضررًا من الحرب الألمانية، تشددت في رفض أي تسهيلات لألمانيا، مما أدى إلى عودة التوتر وأجواء الحرب مرة أخرى في أوروبا.
بدأت بعض الدول الأوروبية، وعلى رأسها بريطانيا، تستجيب تدريجيًا للمطالب الألمانية.
ومع ذلك، استمر الجدل والعناد والتوتر إلى أن ظهر في ألمانيا دبلوماسي قدير تولى منصب وزير الخارجية عام 1923.
كان اسم هذا الوزير “جوستاف سترسمان”، الذي وضع خطة محكمة لها أهداف قصيرة المدى وأخرى طويلة المدى، تتدرج من تخفيف الأعباء عن ألمانيا واستعادة بعض الأراضي، وصولًا إلى السيطرة الفعلية على مناطق شرق أوروبا ونشر النفوذ الألماني فيها.
رأى أن محاولة ألمانيا انتهاك معاهدة فرساي لن تؤدي إلا إلى زيادة تصلب باقي الأطراف، واعتقد أن من الأفضل على المدى القصير مسايرة مقتضيات تلك المعاهدة وإظهار الالتزام الكامل بكل نصوصها.
تحرك دبلوماسيًا لتخفيف وطأة الشروط المجحفة على ألمانيا من خلال عدة أدوات، منها السعي لزيادة الهوة بين مواقف بريطانيا وفرنسا، والتلويح بتوقيع تفاهمات مع الاتحاد السوفييتي.
كما ركز على مجرد المطالبة بتسهيلات في الجداول الزمنية لأقساط التعويضات، والمناورة طوال الوقت للتخلص من أثر المواد السياسية والعسكرية على ألمانيا من خلال دفع الحلفاء أنفسهم للقيام بذلك.
ورغم أنه لم يكن يطيق بشكل شخصي كل ما ورد في معاهدة فرساي، تعامل معها باعتبارها أمرًا واقعًا يمثل تحديًا دبلوماسيًا عليه مواجهته وتغييره بمهارة المناورات الدبلوماسية.
برز الاتحاد السوفييتي بعد الحرب العالمية الأولى كقوة أيديولوجية ثورية تمثل تهديدًا لدول شرق أوروبا. وكان “سترسمان” يدرك أهمية استغلال هذه الورقة التفاوضية، واستطاع بدهاء أن ينشر مفهوم أهمية وجود ألمانيا القوية في أوروبا للحيلولة دون تمدد الخطر الشيوعي، مع إبراز تهافت النظرية الجديدة للأمن الجماعي، وأهمية استعادة مفهوم “توازن القوى” مرة أخرى.
نجح هذا الدبلوماسي الداهية بحق في تفتيت أغلب الأسس التي استندت إليها معاهدة فرساي.
بل وكان في طريقه لتحقيق أهدافه بعيدة المدى للتوسع في شرق أوروبا بشكل سلمي تمامًا ودون إطلاق طلقة واحدة، لولا أن وافته المنية قبل أن يستكمل قطف ثمار خططه الناجحة.
وفي 30 يناير 1933، صعد أدولف هتلر إلى سطح الأحداث في ألمانيا، كي يستفيد من كل ما حققته الدبلوماسية الهادئة لجوستاف سترسمان. ولكن، جاء بما سيحرم ألمانيا من ثمار هذه الدبلوماسية، إذ كانت لديه أفكار مجنونة تضمنها كتابه “كفاحي”، ولم يهدأ إلا بعد أن دفع ألمانيا إلى خوض غمار حرب عالمية جديدة بددت كل ما عمل “سترسمان” على بنائه بصبر وذكاء.
في النهاية، عجز هتلر عن الحصول بالحرب على ما كان ذلك الدبلوماسي الرفيع على وشك تحقيقه بالدبلوماسية، بل أدى ذلك إلى وضع أسوأ لألمانيا من الوضع الذي خرجت به من الحرب العالمية الأولى. ولكن، هذه قصة أخرى.