إن هناك تراجعًا واضحًا للقانون الدولي في مواجهة متغيرات السياسة الدولية، ولعل ذلك يتطلب ضرورة إعادة النظر في نظام القانون الدولي الحالي كي يتم تعديله ليتماشى مع هذه المتغيرات، ويضع له قواعدًا واضحة محددة.
فعلى سبيل المثال أصبحت الحاجة ملحة لتعديل ميثاق الأمم المتحدة فيما يتعلق بتشكيل وإختصاصات أجهزة المنظمات الدولية وعلى رأسها مجلس الأمن، وذلك لا يتحقق فقط من خلال زيادة عدد المقاعد دائمة العضوية، وإنما من خلال إلغاء تلك المقاعد الدائمة ومعها حق النقض بإعتبار ذلك متناقضاً مع جوهر ديمقراطية العلاقات الدولية أو “العولمة”، ونفس الأمر ينطبق علي محكمة العدل الدولية بما يتيح لها أن تلعب دورًا أكبر في تحقيق السلم والأمن الدوليين.
لا يجب أن نغفل أن ميثاق الأمم المتحدة بكل ما يحمله من قواعد تخدم البشرية جمعاء، لم يكن سوى معاهدة جماعية لأولئك المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، ولذلك فهو لا يعكس بالضرورة حقيقة النظام الدولي التي طرأت إثر المتغيرات الهائلة خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة.
فرغم ما يكتب وما يقال عن “التحالف الدولي” أو “الإجماع الدولي” ، فإننا لا ينبغي أن نختبئ خلف هذه المسميات، لأن الحقيقة هي أننا أمام إرادة عالمية منفردة تمثلها القوة العظمى الوحيدة في العالم الآن وهي الولايات المتحدة الأمريكية، أو على أحسن تقدير هي إرادة مجموعة من الدول التي هي الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن.
إن ما تعنيه العولمة كما اتضح من سياسة الإدارات الأمريكية المختلفة مثلاً، هو سيادة القيم الأمريكية في إطار هيمنة سياسية وإقتصادية أمريكية على العالم، هي الانفرادية واحتكار الحقيقة، وهي عدم الاعتراف بالتعددية الدولية، وذلك واضح تمامًا في مجمل تصرفات تلك الإدارة، وما يصدر عنها من تصريحات، وبالتالي فإن مفهوم السيادة الإقليمية بالنسبة لكل دول العالم لا يعد حائلًا أمام السياسة الأمريكية.
حين تروج للاقتصاد الحر والديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكنها في تناقض مدهش تتمسك بشكل صارم بمفهوم سيادتها الإقليمية بشكل مطلق بل وتمد اختصاصه كي يخترق حدود السيادة الإقليمية لغيرها من الدول.
إن كل هذه الإرهاصات قد تعني نهاية الدولة بمفهومها الكلاسيكي، خاصة مع ذلك الاهتمام المتزايد بالتمثيل غير الحكومي للمنظمات غير الحكومية التي تنتشر انتشارًا سرطانيًا في دول العالم الثالث، بغض النظر عن الولاء أو التبعية، مع غياب واضح لأي نظام قانوني يحكم نشاط هذه المنظمات، فلا نعرف مثلاً ما هي الجهة التي ينبغي أن تكون هذه المنظمات مسؤولة أمامها؟
فإذا كانت الحكومات مسؤولة أمام البرلمانات، فتلك المنظمات في الأغلب الأعم تكون مسؤوليتها عامة وغامضة في إطار ما يطلق عليه المجتمع المدني، وأعضاء هذه المنظمات لا يكتسبون عضويتها عن طريق الانتخاب الشعبي، ومع ذلك فإنهم قد أصبحوا قوة ضغط هائلة على الحكومات من خلال اتصالاتهم الدولية بالمنظمات المماثلة، لذلك يراهم البعض أنهم مجرد طابور خامس خلف خطوط السيادة الوطنية.
إن العالم يواجه متغيرات جوهرية، تهتز خلالها كل الثوابت التي قامت عليها الحضارة البشرية خلال القرن الماضي، وما نشهده اليوم ليس إلا مظاهر المرحلة الانتقالية إلى عالم جديد يحمل قواعدًا جديدة للعبة الدولية، فليس مستبعدًا أن تصبح الشركات متعددة الجنسية هي أحد أشخاص القانون الدولي، ومعها بعض المنظمات غير الحكومية العملاقة متعدية الحدود، وخاصة تلك التي تعمل في مجالات الحريات السياسية والمدنية وحقوق الإنسان والبيئة، وسوف يتزايد شحوب الأمم المتحدة وتراجعها كي تفسح المجال لنظام أمني دولي جماعي يدار بواسطة مجلس إدارة من بعض الدول الكبري تحت رئاسة وهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية يتولي تسيير وإدارة شؤون السلم والأمن والعدل الدولي، وتقسيم الثروة والعمل، ومن المؤكد أن الدول المعاصرة سوف تقاوم بشدة هذا التوجه الجديد، وستحاول بشتى الطرق أن تحافظ على النظام القديم، ولكن فيما يبدو أن هذه المقاومة لن تكون مجدية في مواجهة قوة كاسحة تمتلك القوة والمقدرة على استخدام هذه القوة في تليين أو القضاء على أي مقاومة.
ورغم هذه الصورة المتشائمة القاتمة، إلا أنه ينبغي أن نختبر كافة الاحتمالات ونتدارسها تأهبًا لتحديد خياراتنا ورسم الخطط اللازمة، لأن المشكلة لن تكون فقط انهيار الحدود الاقتصادية أو القانونية للدول، وإنما الأهم هو الاختراق الذي من المؤكد أنه سيصاحب هذا التطور في اتجاه الثقافة والشخصية القومية بل والدين أيضًا، وهذا كله قد يحتاج إلى حديث آخر، ويكفي هنا أن نؤكد أنه يمكن لمنطقتنا أن تساير تيار العولمة بشرط أن تشارك في صنعه وأن تتسلح جيدًا كي تقلل من آثاره السلبية وتحقق أكبر فائدة من جوانبه الإيجابية، ولن يكون ذلك إلا بالبناء الواعي والصحي للمجتمعات العربية، أيًا كان شكل ما يسمي بالنظام الدولي الجديد.