يتعلم الدبلوماسي الشاب منذ البداية مستويات السرية المختلفة التي تحيط بعمله، وأبرزها بالطبع سرية المعلومات. ويعلم الدبلوماسي في نفس الوقت أن معيار نجاحه هو مقدار المعلومات التي يمكنه اقتناصها في أسواق اللقاءات الدبلوماسية، التي تعتمد مثل أي سوق على مبدأ “خذ وهات”.
كانت دهشتي عظيمة عندما كنت أزور دبلوماسياً أمريكياً في مكتبه زيارة مجاملة، حين وجدته رداً على أسئلتي حول زيارة وزير خارجيته يفتح أحد الأدراج في خزانة معدنية ويستخرج “برقية رمزية” حول تلك الزيارة ويقدمها لي كي أقرأها. ترددت في البداية، ولكن بدافع الفضول التهمت كل سطورها بنظرة واحدة.
خشيت أن أحدثه لفترة طويلة حول ما قام به، ولكن عندما توطدت علاقتنا قلت له ذات يوم إنني لن أستطيع أن أطلعه على برقياتي الرمزية كما فعل هو معي، بل ونصحته بالحذر من خطورة ما يقوم به.
ضحك الدبلوماسي الأمريكي من قلبه، وشكرني على النصيحة. شرح لي أنه لم يعرض برقية تتعلق بعلاقات بلاده مع مصر، وأن المعلومات التي كنت أريدها ليست على هذا القدر من السرية. وأضاف أخيراً أن رأسمال الدبلوماسي هو مصداقيته، فقد تكون لديه معلومات غير مسموح له بإذاعتها، فلن يقول إنه لا يعرف، بل سيقول إنه لا يستطيع الحديث.
ورغم أنني لم أقتنع بكل حججه، إلا أنني احترمت صدقه، وصرنا بالفعل أصدقاء. ومن الطريف أنه كان لديه لعبة عبارة عن خريطة مغناطيسية وعليها يمكن وضع قطع تمثل وحدات عسكرية، مع ملخص لأحد الحروب، وكان منها حرب أكتوبر.
اللعبة تعتمد على تبادل تحريك الوحدات والنيران، وكل حركة بحساب مع رمي الزهر لتقدير عدد الحركات لكل لاعب. والطريف أنه لم يسبق له الخدمة العسكرية، ومع ذلك كان غالباً يهزمني في لعبة حرب أكتوبر التي خضتها أنا بالفعل.
عندما انتهت سنوات عملي، أعد حفلاً لتوديعي مع عدد من الزملاء في مختلف السفارات. وأثناء الحفل همست له بأنني قد أكتب ذات يوم أنه كان يطلعني على برقياته الرمزية، فضحك بشدة وهو يعلق بأنه لن يعترف بذلك أبداً وسوف يقول إنني حاقد عليه لأنه كان يهزمني في لعبة حرب أكتوبر.