من الروايات الشهيرة عن عميد الدبلوماسية المصرية المرحوم الدكتور/ محمود فوزي، أنه عندما سئل عن رأيه في أحد الموضوعات الهامة التي تدخل في اختصاصه ، فأنه قال بهدؤه المعروف أن ذلك يتوقف علي إلهام القيادة ، مشيراً إلي الزعيم عبد الناصر.
في غيبة الإطار المؤسسي الملزم دستورياً أو العرف الدستوري السياسي ، فأن عملية اتخاذ القرار تصبح منوطة بشخصية القائد ( الرئيس أو الملك ) ، وهنا من المهم أن نفرق بين أمرين أساسيين : الأول هو التصور ( Perception )، الذي يعني الرؤية الذاتية للأشياء وطريقة فهمها ، فعندما ينظر الإنسان إلي شجرة ، تتكون لديه صورة ذهنية عنها بحيث يستعيدها الإنسان كلما نظر إلي شجرة ، والثاني هو التصور الخاطئ (Misperception) الذي ينشأ عن صورة ذهنية مشوشة ومذبذبة لا تعكس الشئ المرصود طبقاً لحقيقته ، فالشجرة في المثال السابق نتيجة لذلك قد تبدو بقرة أو أي شيئ يقترب أو يبتعد عن هيكلها العام، أو يمكن أن يبدو أي شيئ وكأنه شجرة .
وأهمية التفريق بين هذين الأمرين في علم السياسة ، وخاصة في عملية صنع القرار، أن الإستنتاجات والأحكام والقرارات التي تتخذ بناء علي هذا التصور أو التصور الخاطئ تؤثر علي مصائر الأمم .
إلا أنه من الخطأ أن ننسب التصور في حالتيه إلي مصدر القرار السياسي وحده ، وإن كان من الحق أنه يشارك بالنصيب الأعظم لأن تصوره يبني علي ثقافته الذاتية ( بما في ذلك أثر الخبرات السابقة ) ، وحالته النفسية والصحية بوجه عام ، وطريقة إختيار معاونيه ومستشاريه، وكذلك أسلوب تداول المعلومات وتدقيقها ، ولا يمكن أن نغفل دور المؤثرات الخارجية ، بما في ذلك المعلومات المضللة ، الضغوط .. إلخ .
وإذا أردنا تطبيق ما تقدم علي قرار عبد الناصر مثلاً في إغلاق خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية في مايو 1967 ، سنجد أن عبد الناصر تصور – من واقع خبرة الإعتداء الثلاثي عام 1956 – أنه يمكنه الإقدام علي تكتيك ” سياسة حافة الهاوية ” Brinkmanship Policy بفرض واقع علي الأرض ، ثم محاولة إنتزاع أكبر مكاسب سياسية ممكنة منه ، قبل أن تتدخل القوي العظمي للحفاظ علي السلام ..
كما أنه في هذا الإطار كان تحت ضغوط نفسية هائلة من تأثير الدعاية العربية المضادة التي تسخر من التناقض بين خطابه المتشدد تجاه إسرائيل وبين عبور تلك الأخيرة داخل المياه الإقليمية المصرية ( مضيق تيران في خليج العقبة ) .
كذلك كان أسلوب إختيار عبد الناصر لمعاونيه وكبار مستشاريه بوجه عام يعتمد إلي حد كبير علي ثقته الشخصية فيهم ( وهذا أمر مشروع وإنساني )، إلا أن هذه الثقة قد اعتمدت في جزء كبير منها علي العواطف ( وأهمها مشاعر الولاء ) بغض النظر عن القدرات الحقيقية لأولئك المعاونين ، ونضيف إلي ما تقدم حقيقة من حقائق السلوك الإنساني ، وهي محاولة المرؤوس دائماً إسترضاء رئيسه ، إلي درجة التماثل أو التطابق معه ، بحيث لا يري أو يسمع إلا ما يراه أو يسمعه رئيسه، وإذا أخذنا في الإعتبار الشخصية القوية لعبد الناصر ، فمن الممكن أن نفهم أحوال معاونيه ، والمشكلة في إطار الزاوية التي نبحثها هي أنهم يدعمون الصورة الذهنية لدي القائد سواء كانت صحيحة أو خاطئة .
لقد كانت لعبد الناصر ملكات لا جدال فيها ، شهد له فيها العدو قبل الصديق ، وخاصة قدراته في المناورة السياسية ، والتقدير الجيد للمواقف المختلفة ، ومع ذلك ، فأنه وقع ، واوقع معه البلاد ، في فخ / نكسة / هزيمة 67 ، حين لم يكن يكفي مجرد ” إلهام القيادة ” لإتخاذ القرارات الصحيحة ، لأن الإلهام مهما كانت درجة إحاطته بأبعاد المواقف المختلفة ، إلا أنه يقع في دائرة التصور ، والتصور الخاطئ كما قدمنا ، ويكون عرضة للإنحراف والإنجرار والإنخداع .
لكل هذه الأسباب ، يحتل العمل المؤسسي أولية أولي في تقدير المخاطر وتحليلها ، وتقديم البدائل المدروسة ، التي تحمل الجوانب الإيجابية والسلبية لكل خيار ، والموازنة الدقيقة فيما بينها ، وصولاً إلي القرار الأصوب .