من أين تأتي الكتابة؟
بعض الكتابة كأمطار الإسكندرية، تستمد لذاذتها من أنها تنهمر بغتةً، فتعزف موسيقاها حين تنهمر من السحب فوق الأسقف، وتعزف حين تخرُّ من المزاريب على قرميد أرصفة الشوارع الجانبية، وتعزف حين تكون محمّلةً بحبات البَرَد فتحدث تلك «الشخللة» على أجسام السيارات المعدنية.
الأصل في فكرة، ترد بدون استئذان، تتبختر في الخيال كراقصة إسبانية، تدق بكعبها على الشبكات العصبية: «اكتبني.. هيا اكتبني».
ضيفٌ مفاجئٌ ولكن يُغفر له دخوله بغير موعد مسبق، لما له من حب في قلب الكاتب.. والحب غفَّار الذنوب.
الفكرة واردة تجلو ألف شاردة، ومن ثم تتناسل من “الفكرة النواة” عشرات الأفكار والعبارات، وهكذا تتلاعب بالكاتب، فتقلِبُ وتُقلَّبُ دماغه قلبًا وتقليبًا، فيستجيب لها مهما نال منه التعب، فإذا هو ينكفئ على لوحة مفاتيح الكمبيوتر، مشقوقًا ظهره إلى نصفين، يشعل سيجارةً من أخرى، وهو ينقر بأصابعه المعروقة على اللوحة، كأنه في سباق مع عقرب الثواني، ولا يتنفس الصعداء، إلا بعد أن ينتهي من التسجيل على مرة واحدة.
بعض الأفكار تنبع من مصدر خفي، لا تعرف لها أصلًا، ولا تجد لها سببًا، وبعضها من خاطرة صغيرة، كالنار من مستصغر الشرر.
من “بوست” على فيسبوك، تكرر أمامي عشرات المرات، هذه المرة باغتتني الكتابة، وبقدر ما قاومت إلحاحها أن تتدوَّن، بقدر ما حاصرتني، وبقدر ما سعيت أن أصدها بقدر ما أخذت تتقدم أكثر، قضي الأمر.. سأكتب، لقد انتصرت الفكرة على محاولات إرجائها أو تجاهلها، جاءت ملحةً مفعمة بالحياة ترفض وأدها.
“البوست” كان لصديق، رحلت زوجته بعد أكثر من أربعة عقود من “العيش والملح”، إثر صراع مع المرض، فإذا هو لا ينساها لحظة، ولا يفتأ يُذِّكر بمآثرها، كأنه مؤرخ يريد تدوين حوادث التاريخ، يكتب على صفحته بشبكة “فيسبوك” كل يوم تقريبًا، عن مآثرها العظيمة، وأشواقه التي لا تنطفئ إليها.
إنه يكتب لها ويكتب عنها ويكتب فيها.
يكتب لأنه يحب، ويكتب بدافع الحب، يجهر بمشاعره مُرسِّخًا مبدأ أن الحب فضيلة، يجدر بالرجل الشريف أن يرفع صوته بها، وفي كتابته عنها درس بأن الحب متى كان صادقًا، لا يرتهن بالقرب ولا البعد.
هذا ابن زيدون، يناجي ولادة بنت المستكفي، بعد أن أضحى التنائي بديلًا عن تدانيهما: “أنَّ الزمانَ الذي ما زال يُضحكنا/ أُنسًا بقربهمُ قد عاد يبكينا”.. لقد انقطع التواصل ولم ينقطع أثرها.. إنه يبكي لأنها ليست بعيدة، بل لأنها أقرب من ذي قبل.
وهذا عنترة يقف على أطلال عبلة: “يا دارَ عبلةَ بالجواءِ تكلمي/ عمي سلامًا دارَ عبلةَ واسلمي”.. إنه يناجي دارها الخالي لأن شيئًا من وجدانه يستسقي حضورها، كما تستسقي الصحراء الظمأى من حوله الأمطار.
وهنالك المجنون ينشد في وصف حاله إثر فراق العامرية: “وإني لتَعروني لذكراكِ نفضةٌ/ كما انتفض العصفورُ بللهُ القَطرُ”.. تمعن الصورة ومزمز المعنى، إن ذكراها لا تغادر خياله، حتى إن جسمه حين يستذكرها ينتفض كعصفور مبلل.
كلام في منتهى الرقة، والأرجح أنه ليس محض خيال شاعر، وليس فيضًا عبقريًا من القريحة فحسب، بل إن صاحبنا فيما أظن، كانت تعتريه حالات على نحو انخفاض ضغط الدم، إثر امتناعه عن الطعام آنفًا منه أو رافضًا الحياة بذاتها، بعد نأي حبيبته، فيرتعش وينتفض فإذا بروحه المرهفة تتشرَّب مرارة المحنة، فيستخرج الفن من قلب مأساته.
هكذا هم الشعراء، يستخرجون الجمال من قلب الأسى، وينظمون أوجاعهم موسيقيًا، وهم يتلذذون بما يفعلون، يستصغرون أوجاعهم مقابل الشعر، وكأنهم في هذه التضحية، يؤدون مهمة مقدسة.
ثم انظر الشريف الرضي إذ يختزل ما فات كله: “لئن كنتُ أخلِيتُ المكانَ الذي أرى/ فهيهاتَ أن يخلو مكانُكَ من قلبي/ وكنتُ أظنُّ أن الشوقَ للبعدِ وحده/ ولم أدرِ أن الشوقَ للبُعدِ والقربِ”.
حقًا إن الشوق في البعد والقرب، ألا تقول أم كلثوم في رائعة مأمون الشناوي “بعيد عنك”: “واحشني وأنت قصاد عيني وواحشني وأنت بعيد”.
شعور هذا مقامه من الرقي إذن لا يُمارس سريًا، ولا يُوارى كفضيحة خلف ستائر النكران، ولدينا شاعرنا نزار قباني يتساءل: “لماذا في مدينتنا نعيش الحبَّ تهريبًا وتزويرا/ لماذا نحن مزدوجون إحساسًا وتفكيرا”.
والحق أن ما يدأب عليه صديقي على فيسبوك يروق لي، ويشيع في وجداني شيئًا من الشجن والتعاطف، وكثيرًا من التقدير.. إنني رجل أقدّر الرجل الشريف الصادق، ومن شرف الرجل ومروءته إذا أحب ألا يتوارى خجلًا.
الحبُّ ليس خطيئةً، بل هو فضيلة الفضائل، وإنني لا أخجل إذ أقول إنني أتوق إلى اليوم الذي تأتيني فيه ابنتي فتقول لي: “أنا أحب”.
لستُ مثاليًا.. أحس شيئًا من حمم الغيرة في صدري، إزاء حتى تخيل الفكرة، ثمة دماء تسخنُ في عروقي، لست اسكندنافيًا بل سكندريًا، وفي أنسجة لحميشيء من نخوة الأمواج، لكني أغالب نفسي وأرغمها على قبول مبادئيوتطبيقها.
نحن نخجل من إظهار الحب، كأنه عارٌ سيلاحقنا، في حين كان سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، رومانسيًا كل الرومانسية في علاقته مع السيدة عائشة، وكان علي بن أبي طالب يجهر بشعر الرثاء والحنين، إلى السيدة فاطمة بنت محمد، ويُنسب إليه رضي الله عنه أنه كان يقف عند قبرها باكيًا: “حبيبٌ غاب عن عيني وجسمي وعن قلبي حبيبي لا يغيب”.
ما يفعله صديقي إزاء ذكرى حبيبته الراحلة، من ذكرها ومديحها والإفصاح عن أشواقه إليها، أمر يدعونا إلى تصويب كراسة أفكارنا ذاتيًا، فنضع عليها الدرجات، والخسارة كل الخسارة لمن يرسب في الامتحان الأخلاقي المهم.
كانت حبيبته وهي قريبة، وظلت حبيبته بعد الرحيل، إن البعد مفهوم نسبي للغاية، وقد يتحقق الوصال روحانيًا بطريقة ما.
والجميل والمرهف أنه في تكرار ما يكتبه عن الراحلة، وما ينشره من صورهما، ثمة ما يحدو بقلوب متابعيه إلى الترحم عليها، وكأنه يرسل لها عبرهم خطابات غرامية، أرق من جميع ما كُتِب من مكاتيب الحب، إنها خطابات فيها أصدق الدعوات بالرحمة.
هل توجد هدية أغلى من الدعوات الصادقة.. في القرب والبعد؟