نقولها عالية خفّاقة تصل إلى عنان السماء، وعن حق، ربما لم يشهد التاريخ هذا الارتباط القوي بين شعب وجيشه في السلم والحرب كما هو الحال في مصر. فلم تكن الشعارات التي أُطلقت قبل عقود عن وحدة هذا الشعب وقواته المسلحة مجرد كلمات لحفز الهمم أوقات الحروب، لكنها حقيقة واقعة لا نزال نعيشها ونَجني ثمار هذه الثقة اللامحدودة في جيش وطني قوي أخذ على عاتقه مسؤوليات جسام على جبهات القتال وميادين التنمية على حد سواء من أجل رفعة هذا الوطن، ولمَ لا، وهو أول جيش نظامي عرفته البشرية؟
واليوم، يواصل أبناء مصر، جيشًا وشعبًا، وبالتزامن مع ذكرى العاشر من رمضان ونصر أكتوبر العظيم، المضي قُدُمًا نحو ملحمة البناء والتنمية، ويحققون مع كل إنجاز على أرض الوطن عبورًا جديدًا نحو المستقبل في ظل تحديات وحرب انتصرت فيها إرادة الدولة المصرية على جماعات الإرهاب الأسود، وهي حرب لا تقل أهمية عن حرب أكتوبر المجيدة.
ولعل حرب أكتوبر وقوة التحدي في ذلك الانتصار وُصفت بأنها الحرب الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، حيث قلبت موازين القوى وأبهرت العالم بعد أن أجمع خبراء عسكريون على استحالة تنفيذ فكرة العبور. ولكن عبقرية التخطيط، وعنصر المفاجأة، وعزيمة المصريين حققت المستحيل، وكان العنوان الأهم:
“الشعب المصري يرفض الهزيمة”
فمن مخاض الهزيمة كان الإصرار على الثأر والانتصار. ففي أعقاب حرب 1967 رفض الشعب المصري والعربي الهزيمة، وحدد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر استراتيجية المرحلة كعملية استعداد للثأر والانتصار. وكانت الخطة تهدف إلى توفير فرص مناسبة للقوات المسلحة المصرية، لإعادة تنظيمها والقيام بمسؤوليتها في الدفاع عن مصر واسترداد أراضيها.
ولم يتوانَ الشعب المصري، قيادة وشعبًا، منذ لحظة إعلان إيقاف النيران في السعي لاسترداد أرضه المحتلة، وفي التعرف على الأسباب الحقيقية للنكسة ومعالجتها، فتحمَّل الإجراءات القاسية لتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد حرب، والذي استنزف حوالي 50% من ميزانية الدولة، خُصصت لإعادة بناء القوات المسلحة.
وقد اعتمد التحول إلى اقتصاد حرب على عدة أسس، أهمها:
تحقيق مطالب المجهود الحربي وإزالة آثار العدوان.
- وضع بدائل لخطة التنمية بما يتوافق مع الموارد المحلية.
- تقليل الاعتماد على الاستيراد لتوفير العملة الصعبة.
- استغلال القوى البشرية في تطوير الصناعة والانتاج.
أمدَّ الشعب القوات المسلحة بخيرة شبابه المتعلم، الذين حققوا طفرة علمية كبيرة نتيجة لاستيعابهم تكنولوجيا الأسلحة الحديثة، وإيمانهم بالتضحية في سبيل مصر، واستخدامهم أساليب علمية وابتكارات حديثة مكَّنتهم من التفوق على المقاتل الإسرائيلي.
وأصرَّ الشعب على تحقيق مبدأ “يد تبني.. ويد تحمل السلاح”، فشهدت هذه المرحلة إنجاز مشروعات قومية كبرى رغم الظروف الصعبة، مثل استكمال بناء السد العالي، وإنشاء مصنع الألومنيوم في نجع حمادي، وإنتاج المصانع المصرية للعديد من متطلبات القوات المسلحة.
تقبَّل الشعب إجراءات تهجير سكان مدن القناة، وبعض مواطني سيناء، تأمينًا لهم من القصف العشوائي الذي استخدمه العدو الإسرائيلي. وقد تجاوز عدد المهاجرين ثلاثة أرباع المليون، علاوة على عشرات الآلاف من مواطني سيناء الحبيبة.
كانت تلك مرحلة الصمود والتحدي وميلاد روح أكتوبر العظيمة داخل كل مصري يحلم بالنصر، ومن أجله يضحي بكل غالٍ ونفيس. وكان قرار الحرب للرئيس السادات، الذي تم اغتياله غدرًا يوم النصر على أيدي الجماعات الإرهابية في أبشع صور الخسة والندالة والخيانة.
في العاشر من رمضان وظهر السادس من أكتوبر، كانت الملحمة الكبرى لشعبنا العظيم في إعادة بناء القوات المسلحة وقهر الهزيمة. ففي أعقاب يونيو 1967، كان لا بد من إثبات زيف الادعاءات بضعف القوات المسلحة المصرية، فتبنَّت القيادة استراتيجية منع إسرائيل من استغلال نجاحها العسكري، ثم التحول إلى الدفاع النشط، عندما يسمح الموقف بذلك.
ولأن “ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة”، كان لزامًا توفير سلاح متطور حديث، وإعادة تنظيم القوات المسلحة، ورفع كفاءة التدريب، وتعبئة الجبهة الداخلية في شتى المجالات، من أجل معركة التحرير واستعادة الأرض، تحت شعار لا يزال حاضرًا “الجيش والشعب يد واحدة”.
وجاء الانتصار وكانت “الله أكبر” كلمة السر غير المتفق عليها، التي ألهبت حماس المقاتلين، وأمدَّتهم بقوة إيمانية في يوم الصوم، على جميع الجبهات داخليًا، وعلى الحدود مع العدو الإسرائيلي. عبر إصرار جيش مصر المنتصر، تم عبور خط بارليف وتحطيم أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وانتصرَت إرادة المصريين بروح أكتوبر، التي وُلدت داخل كل مصري شعر بالهزيمة والقهر، وبعد الحرب، تذوق حلاوة النصر بفضل تلك الروح التي انتصرت على قوة وغطرسة وجبروت العدو.
استدعاء روح أكتوبر في مواجهة التحديات الحالية
إذا كان الشعب المصري قد انتصر بروح أكتوبر على الأعداء في حرب العزة والكرامة، فنحن اليوم أحوج ما نكون إلى استدعاء هذه الروح في ظل الحروب المشتعلة في محيطنا الإقليمي، والتحديات التي تواجه إرادة الدولة في ملف إعمار غزة، ومنع تهجير أهلها، والحفاظ على أمننا القومي.
كما نخوض حربًا إعلامية شرسة من خلال تغيب العقول، وحرب الشائعات، وبث السموم عبر الإعلام المُعادي، الذي تدعمه قوى خارجية بهدف إسقاط رمانة الميزان في العالم العربي والإسلامي.
فمتى نستيقظ من غفلتنا، ونعيد إحياء روح أكتوبر داخل كل مصري، حتى نواجه التحديات الاقتصادية والاجتماعية، ونُعزز ثقتنا في المستقبل، ونُدرك أن التاريخ لم يكن يومًا مجرد سردٍ للأحداث، بل درسٌ يُستفاد منه لبناء الغد.
فهل من الممكن أن نستدعي روح حرب أكتوبر المجيدة لإنقاذ جسد الأمة، الذي يعاني من تداعيات هذه الجراحة الاقتصادية العاجلة وآثارها الجانبية؟