“أخت روحى” هى مجموعة قصصية صادرة عن الدار المصرية اللبنانية للكاتب عمار على حسن بعد أربعة عشر رواية وثماني مجموعات قصصية بالإضافة إلى أعماله النقدية والفكرية.
تضم المجموعة أربع عشرة قصة لا تتجاوز مائة واثنتين وأربعين صفحة وهى ملاحظة – رغم شكليتها المبدئية – توحى بالتكثيف وتركيز الكاتب على بؤرة الحدث السردى والابتعاد النسبى عن الوصف الذى يوقف حركة السرد حيث تبدأ أغلب القصص بالدخول المباشر فى قلب الحدث.
ففى القصة الأولى التى تحمل عنوان ” الجميزة ” نقرأ: “حين أبلغنى باكيا بأنهم قطعوا الجميزة وبنوا مكانها بيتا عاليا من حجر وأسمنت استيقظت أحزانى ووجدت نفسى أتضاءل فى مقعدى اللين.” هذه السطورالتى يعود السارد منها إلى الماضى القريب عن طريق الاسترجاع حين كان طفلا يقف تحت ظلالها الوارفة تملؤه الهيبة والامتنان وتمتزج فى وعيه وجوه الأجداد بعناصر الطبيعة ومن هذه الزاوية تتحول ” الجميزة ” إلى رمز عام لكل ماهو طبيعى فى مقابل زحف الحجارة والأسمنت ومعالم التحديث التى تعد ضرورية فى الحقيقة لكنها تقضى على ذلك البراح والانفتاح على الطبيعة وهو ما يخلق درجة من النوستالجيا إلى تآلف الإنسانى والطبيعى.
كما يؤكد هذا، من جانب آخر، تيمة الزوال المهيمنة على أغلب قصص المجموعة وبقدر أسطرة هذه الجميزة تتضح فداحة فقدها فوجوه الأجداد التى يصطادها السارد من فروعها – ولنلاحظ الخيال الفنتازى – تقول بصوت واحد ” لا نعرف من غرسها لكن أجدادنا أخبرونا أنهم وجدوها على هيئتها هذه ” وهى غرس الطبيعة لا الإنسان حيث جرف النيل وقت الفيضان قطعة من فرع جميزة نما واكتمل وصار هذه الجميزة التى عمرت – كما يقولون – ثلاثة قرون فبدت هبة إلهية لا دخل للإنسان فيها.
أما قصة ” أخت روحى ” فهى تبدأ من نهاية الأحداث من موت ” وداد ” التى يصفها السارد بأنها أخت روحه ولم يعلم أحد بموتها إلا من رائحة جثتها المتعفنة هذه الرائحة التى فر منها الجميع ما عدا السارد الذى اقترب منها ليشم أطيب رائحة والقصة تقوم على بنية دائرية حيث تعود إلى المشهد نفسه بعد أن تقوم بسرد الأحداث التى أفضت بالبطلة إلى هذا المصير حيث مارست زوجة الأب قسوتها على هذه الفتاة وعلى أخيها ثم قهر وداد من زوجها.
وتأتى نقطة التحول فى مسار الأحداث حين يتمكن السارد من إنقاذ أخته والرجوع بها إلى البيت وطرد زوجة الأب، وتظل وداد تعانى وحدتها بعد طلاقها وموت الأب وزواج أخيها واستقراره فى بورسعيد حتى يأتيه خبر موتها. ويكرر السارد فى نهاية القصة مشهد البداية لكنه يضيف إليه نظرات تلك المرأة العجوز الشامتة والتى لم تكن سوى طليقة أبيه.
والتيمة الأساسية فى هذه القصة تتجلى فى ثنائية القهر والتمرد فى بعدها الاجتماعى تحديدا سواء كان قهر الرجل للمرأة، كما فى حالة وداد وزوجها، أو قهر المرأة للرجل كما فى حالة زوجة الأب ووالد السارد ولا يأتى الخلاص إلا بالتمرد على فاعلى القهر فى وقت واحد تقريبا. لكن عزلة وداد كانت أقوى من التمرد عليها فرغم أنها تحمل – فى الأساس – بعدا اجتماعيا فإنها تطرح – فى الوقت نفسه – أزمة وجودية خاصة بعلاقة الإنسان بالزمن وهو قوة قاهرة لايستطيع الإنسان مواجهتها أو التحرر من سطوتها.
وفى قصة ” مواء البنات ” يستخدم الكاتب بنية التداخل حين يتحدث عن غياب ” قطة ” وغياب ” الابنة ” عن بيته فى تداخل يوحد بدرجة كبيرة بينهما وهو مايظهر فى إضافة ” المواء” إلى ” البنات ” فى العنوان نفسه بحيث تكون الأولى – القطط – رمزا للثانية ويتحول غياب القطة وأخواتها إلى كابوس مزعج يطارده ثم تتحول بنية التداخل إلى التوازى – كأنها نقطة انفراج الأزمة – فى نهاية القصة حين يتحدث عن القطط الصغيرة التى ملأت البيت والبنات ” اللاتى كبرن وبرزت لهن تفاحات فى صدورهن، وصرن يختلين بأمهن ويسألنها عن أشياء لايردن للأب أن يسمعها أبدا ” .
وتبدو قصة ” صورتها فى الماء ” كما لو كانت تصويرا شديد الإيجاز لحلم خاطف فى حياة البطل الريفى الفقير الذى عمل محررا فنيا لمدة ثلاثة شهور تعرف خلالها على الممثلة الشهيرة الجميلة التى قربته منها ثم فجأة ” راح كل شىء ولم يعد هناك مايدونه – عنها – فهى اعتزلت من دون سابق إنذار بعد أن تزوجها رجل فاحش الثراء ” بينما رجع هو إلى قريته يستعيد كلامها ويتأمل صورتها فى صفحة الماء. نه الثراء الذى يذهب بأحلام الفقراء ولا يترك لهم سوى السراب.
ولم يكن الفقر فقط هو القاهر الوحيد الذى يواجهه الفقراء بل يلازمه المرض فى احيان كثيرة كما يبدو فى قصة “إشارات النهاية” التى ينهيها السارد بتوحد كل وجوه المرضى الذين عرفهم حتى “صارت وجها واحدا يجمع قسماتهم جميعا راح يتقهقر حتى غطى كل ملامح صاحبى وصار وجهه.”.
ومن الواضح أن الكاتب – هنا – يستفيد من تقنيات السينما التى تبدو فى تتابع الوجوه وتوحدها وتماثلها – أخيرا- مع ملامح البطل الذى جاءته إشارات نهايته بهذا المرض اللعين .
ويبدو ” مقهى علاء الدين ” تمثيلا رمزيا لهذه النهايات المؤلمة حين يتابع السارد حركته الضاجة بالزبائن حتى يأتى فراغ الليل ويغرق السارد فى ” شرود طويل ” يأخذه إلى ” تلك الأشجار التى تحط فى الذاكرة ” من قريته البعيدة وفى قصة ” سباق خاسر” تتبدى رؤية السارد لحقيقة الحياة بعد فوات الوقت وبعد أن قضى عمره كله لاهثا خلف المال آخذا من التاريخ أتفه وقائعه حيث ” الملوك والسلاطين والأمراء والوجهاء … والقصور المنيفة وأسمطة الطعام الممتدة والجوارى الجميلات اللاتى ينتظرن إنعام الأسياد عليهن بالدفء. ” ولكى يحقق هذا الحلم الزائف حرم نفسه من كل شىء لكى يدخر ماي مكنه من هذه الملذات حتى نفد عمره وأصابه الوهن دون جدوى .
وفى قصة ” مكان آخر” يبدو البطل على النقيض من الشخصية السابقة فنحن هنا أمام بطل متمرد مهما كانت العواقب، وذلك حين يعارض أستاذه الجامعى، ويواجهه متحملا رفته من الجامعة، واشتغاله عامل بناء لكن ما معنى هذا ” المكان الآخر” الذى جعله الكاتب عنوانا لقصته هل هو المكان الذى يخلو من القهر ويتمتع أصحابه بالحرية ؟ هذا أحد المعانى الواردة التى أضمرها الكاتب بذكاء واضح .
كما تحفل المجموعة بالشخصيات الغامضة كما فى ” جمرة تخرج من الماء ” التى تقدم شخصية هاربة من ثأر يقوم أهل القرية بأسطرتها ويوظف الكاتب المأثورات الشعبية حول السحر حين يقول على لسان هذه الشخصية ” أنا رجل مسحور أرسلنى أبى قبل أن يموت برصاصة وحيدة إلى ساحر ليمنحنى ما يخفينى عن الراغبين فى قتلى ” ولايحل لغز تلك الجمرة التى تخرج من الماء إلا حين نعلم نبوءة الساحر الذى قال له إنه لن يعيش سوى ليلة واحدة حين تصيد سنارته جمرة من وسط الماء وهو ماحدث بالفعل.
وفى قصة ” شىء فى البحر” يعقد الكاتب شبها بين شىء رآه فى البحر ورجل عابر مرة والنادل مرة أخرى هذا الشىء الذى بدا مصلوبا كخيال المآتة والرمز واضح الدلالة على غرق بسطاء الناس فى أمواج الهموم التى تتقاذفهم وتجعل منهم كائنات شبيهة بخيال المآتة وهذا ما نلاحظه حقا فى شيوع تيمة الفقر الذى يصل لحد موت بعض الشخصيات جوعا وما يصاحب ذلك من مرض وقهر مادى ومعنوى على مدار هذه المجموعة القصصية المتميزة.