شهادة الصاغ / زغلول عبد الرحمن
رئيس أركان حرب كتيبة البكباشي يوسف صديق
يقول ابن خلدون في المقدمة.. “التاريخ هو خبر وصلنا أو هو حكاية مُفردة لواقعة واحدة من وقائع كثيرة، بعضها معروفٌ ومشهورٌ، وبعضها الآخر مستورٌ ومطمورٌ؛ لأنه لم يصلنا عنه أخبار..” وقبل أن ندخل في شهادة الرجل علينا أن نتسائل لماذا تتناقض معظم مذكرات قادة الضباط الأحرار مع بعضها؟ ولماذا لم يكتب الضباط الأحرار مذكراتهم عن ثورة 23 يوليو في حياة جمال عبدالناصر؟! ولماذا صمتوا في حياته و تكلموا بعد وفاته ؟! لماذا لم يتم الإفراج عن وثائق ثورة 23 يوليو حتي الآن؟! ولماذا تظل في خزائن مغلقة؟!
علاقتي بالصاغ زغلول عبد الرحمن
هذه شهادة تنشر لأول مرة سمعتها بأذني من الصاغ زغلول عبد الرحمن أحد الضباط الأحرار الذين شاركوا في ثورة 23 يوليو 1952، حكاها لي على فترات مختلفة من الزمان. حيث جمعتنا صداقة عميقة استمرت تقريبا لمدة عشرين عاما، من عام 1983 إلي عام 2000، وخلال هذه الفترة كان زغلول عبد الرحمن يعيش في الأسكندرية مع زوجته الألمانية وقد تعرفت عليه من خلال اللواء رياض إبراهيم، أهم رجال المباحث العسكرية ومديرها والمسؤول الأول عن قضية سيد قطب وقضية الإقطاع في كمشيش عام 1965 وقضايا أخري مهمة، وكانت صداقته بعبد الحكيم عامر “صداقة عمره” كما يصفها زغلول عبدالرحمن، كانا معًا في سلاح المشاة، ورتبهما العسكرية واحدة “صاغ” حتي قيام الثورة، ومن منطقة سكنية واحدة وهي العباسية، وكلاهما كان مخزن أسرار للآخر.
يقول زغلول عبد الرحمن “بحكم صداقتي لعبدالحكيم تعرفت علي عبدالناصر وأصبحنا أصدقاء، وكان عبدالناصر عكس عبدالحكيم قارئ للأدب والتاريخ والقصة والصحافة وكان يهوي الأدب الإنجليزي، ويضيف، كنت وما زلت أحب الشعر والقصة في الأدب الفرنسي بحكم إجادتي للغة الفرنسية والإنجليزية، وكان حصار القوات البريطانية لقصر عابدين عام 1942 وإنذار الملك قد ترك بداخلنا وبداخل الجيش جرحا عميقا، وزادت من كراهيتنا للإنجليز والأحزاب السياسية وبعدها كان بداية خيط فكرة حركة الضباط الأحرار ثم تنظيم الضباط الأحرار.
يكمل الصاغ زغلول عبد الرحمن “عرف عبدالناصر بصلة قرابتي بأحمد ومحمود أبوالفتح وفهمي حسين، فهم أولاد عمتي وكان عبد الناصر يقدر كتاباتهم خاصة أحمد أبو الفتح وقد عرفته عليهم في ذلك الوقت.
وحتي لا نخرج عن الموضوع أعود وأقول وأؤكد أنه لم يدر في ذهني أن ما كان يحكيه زغلول عبدالرحمن بشكل عفوي أو في أحاديث عن ذكرياته في ليلة 23 يوليو واقتحام قيادة الجيش سوف أكتبه يوما، ولم يكن الرجل أيضا مشغولاً أو مهتما بكتابة مذكراته، لكن كلماته في وصف ما جري ليلة الثورة كانت كلمات مرئية بالنسبة لي، وما أحكيه هو استدعاء لأحاديث ممتدة عبر علاقتي وصداقتي بهذا الرجل الذي نساه الناس والتاريخ، واصطحبته ذات يوم للقاء المرحوم مجدي حسنين أحد الضباط الأحرار في مكتبه، وحضر اللقاء محمد عودة وسهير فهمي وأحمد الرفاعي رحمهم الله جميعا، وأخذ كلا الرجلين يحكيان دورهما في هذه الليلة وذكرياتهما فيها، وكان المرحوم مجدي حسنين يقيم حفلة عشاء سنوية في ذكري ليلة الثورة، يدعوا فيها بعضًا من الضباط الأحرار الذين شاركوا في الثورة، وكان كل واحد منهم يحكي ذكرياته في هذه الليلة، وأتذكر منهم شعراوي جمعة وسعد زايد وأحمد حمروش رحمهم الله، وكان يشارك هذا الاحتفال أيضا بعض من الكتاب والصحفيين ومنهم محمودالسعدني ومحمد عودة ويوسف الشريفوأحمدالرفاعي والمهندس عبدالحميد أبو بكر وسهير فهمي وعبدالغني أبوالعينين وغيرهم رحمهم الله وغيرهم مازالوا أحياء أطال الله في أعمارهم.
كيف نجا من الإعدام؟
زغلول عبدالرحمن هو أول مدير لمكتب وزير الحربية عبدالحكيم عامر وهو الملحق العسكري الوحيد في بلدين في وقت واحد، سوريا ولبنان، وبعد الوحدة استمر عمله في لبنان كملحق عسكري، طلب منه عبدالناصر ألا يترك المشير ويظل قريبًا منه في سوريا لعلمه بثقة المشير في زغلول، وطلب منه أن يرسل إليه تقارير، وأرسل بالفعل زغلول عبد الرحمن لعبد الناصر تقارير عن سوء إدارة المشير ورجاله للموقف في سوريا.
وزغلول عبدالرحمن الغائب إلي رحمة مولاه نساه الناس والتاريخ لا لذنب ارتكبه في مؤتمر شاتورا في لبنان، أغسطس عام 1962، أي بعد الانفصال بعام كامل لأنه لم يهاجم الوحدة، ولم يكن ضدها ولا ضد جمال عبدالناصر، ولكنه قال ما أرسله في تقارير لجمال عبدالناصر عن مسؤلية المشير في الانفصال، ويضيف زغلول قررت الهرب خوفا علي حياتي من انتقام المشير صديق عمري، ولم أهرب خوفا من جمال عبدالناصر، لأنه يعلم الحقيقة، وعدت للوطن طواعية من الخارج عام 1965، وقابلني ناصر وتم محاكمتي، ولم يصدق على قرار إعدامي وأفرج عني بعد عام 1967.
وكتب عن محاكمته أكثر من مرة الصديق والكاتب الصحفي الكبير سعيدالشحات علي صفحته المميزة “ذات يوم”وكان زغلول عبد الرحمن يحضر جلسات محاكمته ببدلته الكاملة ورباط عنق، وليس بملابس السجن، ولعلها المرة الوحيدة التي يرتدي فيها مسجون في جلسات محاكمته علي هذا النحو، وعموما هذا موضوع آخر قد أكتب عنه يوما، وأراد السادات بعد أن تولي السلطة أن يستغل زغلول عبدالرحمن وعينه أمينا للجنة شكلها برئاسة حسني مبارك، لإعادة كتابة تاريخ ثورة 23 يوليو، وعضوية فؤاد باشا سراج الدين وآخرين، وكان لزغلول موقف في أول اجتماع لهذه اللجنة وسجل في محضرها الأول هذه العبارة “يظهر في كل مائة عام نبي لأمة وجمال عبدالناصر نبي هذه الأمة” ما دعي السادات أن يقيله من هذه اللجنة وهذا أيضا موضوع آخر قد أكتب عنه يوما.
عموما اسمه كاملا زغلول عبدالرحمن الضبع، صاحب الملامح الأوروبية، من أكبر عائلات مدينة الشهداء بالمنوفية، والتي لها امتداد عائلي بالصعيد، هو ابن خال وعمة أحمد ومحمود أبوالفتح، وعلي ما أظن أنهما جميعا من عائلة واحدة، عائلة الضبع،ومن هذه الناحية هو قريب زوجة ثروت عكاشة، كان فارسا و شاعرا ونبيلاً ومحبا للحياة.
وبعد هذه المقدمة يبقي السؤال المهم ماذا جري ليلة الثورة؟ وهل كان عبدالناصر يرتدي ملابس مدنية هو وعبدالحكيم عامر، وسيارة عبدالناصر بالقرب منهم استعدادا لهروبهم إذا فشلت الثورة كما يروج وروج كارهو عبدالناصر وثورة يوليو؟! هل كان عبدالناصر جبانًا إلي هذه الدرجة ويترك قوات كتيبة يوسف صديق تقتحم القيادة ولا يشاركها وينتظر النتيجة؛ إذا غنمت اعتلي العرش، وإذا فشلت هرب؟! لماذا اختار عبدالناصر أن يسبق الجميع إلي هذا المكان بالذات بالقرب من قيادة الجيش ليلة الثورة، انتظارا لوصول القوات وهو يعلم أنه الأكثر احتمالاً للصدام؟ ولماذا لم يذهب إلي الأسكندرية بحجة تواجد الملك فاروق هناك؟ لماذا لم يذهب مع القوات التي تحاصر قصر عابدين؟ لماذا لم يسألوا أنفسهم كارهو عبدالناصر وكارهو أنفسهم إذا كان عبدالناصر لم يشارك في اقتحام قيادة الجيش فكيف سمح له من اقتحموها أن يتولي إدارة العملية بالكامل بعد اقتحام مقر القيادة؟ هل هي محبة يعني أم خوف؟ أم هو القائد والمخطط والآمر والمنقذ والمنفذ في ليلة الثورة؟
في إحدي خطب عبدالناصر قال إن تحرك قوات يوسف صديق قبل الميعاد كانت سببا في نجاح الحركة، ونعاه يوسف صديق بأعذب قصيدة شعر بعد رحيله، هكذا ترك لنا الفارسان الذكرى، هذا ما سوف أحكيه في الجزء الثاني نقلا عن ملخص شهادة وأحاديث مع المرحوم، زغلول عبدالرحمن أركان حرب كتيبة مشاة ماكينة رئاسة البكباشي يوسف صديق.
” يتبع الجزء الثاني “