هي أجمل قصيدة، في تاريخ الغناء العربي، على الأقل في ذائقتي، وفيها تتضافر العناصر الثلاثة، الكفيلة بإنجاح أي عمل غنائي، وعلى رأسها: الكلمة، ثم الصوت الناعم، كحدٍّ خنجر، ثم اللحن الذي منح القصيدة، طبقة شعورية وإبداعية أسمى وأرقى.
قارئة الفنجان لنزار قباني، تلك الحالة الشعرية الاستثنائية، التي تستحضر الأجواء الملحمية، وتبدع في قالب فيه درجة من النظم المسرحي، لولا أنه يخلو من الحوار.
تبدأ موسيقى محمد الموجي، بمقدمة لاهثة، لا تحس فيها جملة متصلة، فوضى موسيقية مبدعة، كأنفاس خائف، في ليلة ظلماء، الكمنجات مستنفرة، والطبلة متوترة، والأورج متبختر، صارخ، ناعق، في إيقاع أسباني، يحاكي وقع حوافر الخيل، حين تكر، وحين تفر.
ثم ينساب صوت عبدالحليم، ممتلئًا حتى الثمالة، بـ”الحنين العذب”: “جلست والخوف بعينيها/ تتأمل فنجاني المقلوب”.. ليعلن دخولنا على متون الدهشة، عالم الجن والأشباح والعرافات.
ثلاثية مبدعة.. القصيدة التي تستوحي تفاصيلها، من حكايات العجائز، عن العفاريت والممسوسين، والصوت الذي يفيض الشجن من ضفتيه، واللحن المثقف الذي وظّف الأوتار، لخدمة الحالة الشعرية الإبداعية.
وتتحدث قارئة الفنجان، وهي لا تخفي الحقيقة عن العاشق، رغم كونها تناديه: ياولدى، فالحب عليه هو المكتوب، لكنه حب شاءت الأقدار، أن ينتهي بخسارة فادحة، هكذا جاء في الفنجان، وهي تقرؤه مثلما يقرأ طبيب، أشعة مقطعية، بقلب جامد، وكلمات حاسمة.
لكن قلب العرافة ذاتها، وفي مقطع موسيقى “جنائزي” يرق للفتى، فتناجيه وتعزيه: “يا ولدي قد مات شهيدًا/ من مات فداءً للمحبوب”.. ذلك أنها رغم كثرة ما قرأت من فنجانين، لم تقرأ أبدًا فنجانًا يشبه فنجانه، ولم تعرف أحزانًا تشبه أحزانه.
إنه مأساة عاطفية، إنه يحب حتى إنه قد يموت شهيدًا، فداء عينيها، فما أسمى هذا الموت؟
مأساة تحدو بالعرافة التي تمارس عملها باحترافية، أقرب إلى الجمود، إلى أن تتأرجح بين خطابين: خطابها الدارج، الذي تلقي فيه بما بَصرت به، في وجه زبائنها، وخطاب قلبها الذي أوجعه أمر هذا المسكين، فإذا بها تخاطبه: “مقدورُك أن تمضي أبدًا/ في بحرِ الحبِّ بغير قلوع”، وهو بحر هائج يا ولدى، يبلع المغامرين الذي يرومون بلوغ جزيرة أحلامهم، أولئك الذي يصارعون العواصف الهوجاء، بغير قلوع.
هذا قدرك وقضاؤك، وهكذا أوحى إليّ الفنجان، لكن لا تحزن، فأنت رغم الريح والجو الماطر والإعصار، ورغم هزائمك وحرائقك، قد نشدت تغيير الأقدار، أردت يا ولدي، أن تلوّن لوحة عمرك الجرداء، بشيئ من خضرة البساتين، وشيئ من زرقة البحار، وشيئ من الحب.. أحلى الأقدار.
ثم تنساب الموسيقى، مع الكلمات المتبخترة: “بحياتكِ يا ولدي امرأةٌ/ عيناها سبحان المعبود”.
عبارة شعبية، أو شعبوية، فكلنا نقول في مديح الجميلات: “تبارك الخلاق”، لكن شاعرية نزار الفذة، تلتقط الجملة، فتُجيّرها في نص شعري، فتبدو عميقة الدلالة، سامية المغزى.
عيناها تذكرانه بالقدرة الإلهية، على خلق الجمال، وهي بالطبع قدرة غير محدودة بحدود، إنها المُطلق، وهو عز وجل، الذي ليس كمثله شيئ، أحسن الخالقين، أعظم المبدعين، الذي إذا أراد شيئًا، قال كُن فيكون.
إن المغامرة ليست من أجل هدف هين، أو مطلب زهيد، إذن، بل من أجل الجميلة التي لا وصف يقال في عينيها، إلا تلك الشهقة التي تخرق الضلوع، والبسملة فالتمتمة: سبحان الله.
هل ثمة امرأة بهذه الصفات الجمالية الخارقة؟
بالطبع لا.. لكن الحب لص ماكر، يترك لنا النظر، ويسلبنا البصر، فإذا بمن نحب يصير في عيوننا، خارقًا للمألوفِ في كل شيئ، فالحبيبةرغم أنها امرأة، عادية على الأرجح، تكتسب فرادتها لأنها “يهواها القلب هي الدنيا”.. كل الدنيا.
وهكذا نسافر مع القصيدة، على بساط سحري من صوت حليم، ولحن الموجي، حتى نبلغ محطة تُشكل ركنًا أصيلًا، من وجدان الشاعر، ومن وجداني الذاتي كذلك.. فالحبيبة تنام في قصر مرصود/ من يدنو من سور حديقتها/ يا ولدي مفقود”.
هنا تتجلى الظلال السياسية، والرمزية العبقرية، هي ليست أنثى، بل هي الوطن، أو هي الوطن الأنثى، أو الأنثى الوطن، من قال إن محبًا لا يجد وطنه بين أحضان أنثاه؟
على أن حال تلك الحبيبة الوطن، ليس أفضل من “درويشها المتيم”، فهي في قصرها تحت الحراسة، أو لعلها قيد الإقامة الجبرية، وربما “الاختفاء القسري”، وهذا القصر كما جاء في جزء استبعده حليم من القصيدة، مشدد الحراسة: “فحبيبة قلبك نائمةٌ في قصر مرصود/ والقصرُ كبيرٌ يا ولدي.. وكلابٌ تحرسه وجنودْ”.. وهو مقطع نحمد الله على استبعاده، كونه رحمنا من هاشتجات: “الحرية لعبدالحليم”، حتى اليوم.
دعونا نتجاوز هذا اللغم، الذي ظهر لي، فيما أنا أكتب، وأخشى أن ينفجر فيبعثرني، ولنصل حديثنا.
إن العشاق الصادقين، حمقى يغامرون، يحاربون طواحين الهواء، ويفتحون أحضانهم لاستقبال الخناجر، مجاذيب يسألون موج البحر، وفيروز الشطآن، حتى تفيض دموعهم أنهارًا، وتصير أحزانهم أشجارًا.
موسيقى تترنح كهوادج الجمال في البادية.. حزينة على فراق أرض كانت واحة، ثم صار ماؤها غورا، فغدت أطلالًا تلوح كباقي الوشم في اليد، بعد رحيل سكانها، ومعهم الحبيبة، ذات العينين اللتين يقال فيهما: “سبحان المعبود”، بغض النظر عما إذا كانتا سوداوين، أو زوقاوين، أو خضراوين، واسعتين أو ضيقتين، فهما عيناها هي، حتى وهي “ليس لها عنوان”.