لم يعد الحديث عن إتفاقية “سايكس بيكو” مجرد سرد تاريخي، بل عاد اليوم بمسمى جديد وهو إتفاقية “ترامب-نتنياهو”. الشرق الأوسط الجديد، حيث تشهد منطقة الشرق الأوسط تحولات جذرية منذ السابع من أكتوبر، وتتكشف معادلات جديدة تفرض نفسها على المشهد السياسي.
للأسف الشديد لا توجد اليوم أمة عربية موحدة، ولا رأي عربي موحد والاختلافات دائما هي سيدة الموقف حتي بين الفلسطينيين أنفسهم المتضرر الأول وخط الدفاع الأول عن القضية الفلسطينية والمنوط بهم الدفاع عن فلسطين مضطرين غير مخيرين ، فالقضية الفلسطينية تراجعت كثيرا السنوات الماضية حتي أنها لم تعد أولوية لدى العرب، فكل دولة عربية إنكمشت علي نفسها وأصبحت غارقة في أزماتها السياسية والاقتصادية، تحاول النجاة وسط تهديدات أمنية وأوضاع داخلية خانقة.
كما أن الشعوب العربية تعيش بين الفقر والقمع، في ظل أنظمة دكتاتورية قائمة على القهر والرقابة والسجون، حيث الحريات مسحوقة، والبطالة تتفاقم،والمفاهيم الاجتماعية تنهار ، والضوابط الدينية يتم محاربتها وسط واقع اجتماعي متصدع .
فلا يزال العالم العربي يرزح تحت وطأة الخرافات والأساطير الدينية والأوهام بعيدا تماما عن الواقع المؤلم ،في حين تسود القوانين القمعية، والمجتمعات العربية تغرق في الاستهلاك دون إنتاج أو مساهمة فعلية في الحضارة الحديثة. المفارقة أن هذه الشعوب، رغم رفضها للتغيير في مجتمعاتها، تحلم بالهجرة إلى الغرب، بحثًا عن الحرية والحقوق.
في ظل هذا الواقع المخزي للعرب، ستصبح قرارات القمة العربية بشأن غزة غير مؤثرة أو قرارات غير ذات جدوى ، فقد يقرأها ترامب ونتنياهو بدافع الفضول، لا أكثر، لكنها لن تؤثر في مجريات الأحداث ولن تُؤخذ بعين الاعتبار. وقد رفض ترامب الخطة العربية بشأن غزة وتمسك بتهجير أهلها وقال أن الخطة لا تعالج حقيقة عدم صلاحية القطاع للسكن حيث علق المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، على البيان الختامي للقمة العربية الطارئة التي عقدت في القاهرة وأقرت خطة لإدارة وإعمار قطاع غزة، بأن ترامب رفض هذه الخطة.
وقال المتحدث باسم البيت الأبيض: “خطة إعادة إعمار غزة التي تبنتها الدول العربية لا تعالج حقيقة أن القطاع غير صالح للسكن ”
وقال “لا يمكن لسكان غزة العيش بشكل إنساني في منطقة مغطاة بالحطام والذخائر غير المنفجرة” وهذا معناه أن ترامب مازال مصمم علي تهجير الفلسطينيين من غزة ، والدليل علي ذلك التحذير الاخير من ترامب لحماس بعد انتهاء القمة العربية بأن الجحيم ينتظركم إن لم تطلقوا سراح الرهائن فورا ، وهذا يعني أن خطته ماضيه كما هي بدون تغيير وكأن شيئا لم يحدث فالشرق الأوسط يتغير ومراكز القوى الدولية ترسم خطوطًا جديدة والعرب غير مؤثرين في المعادلة الجديدة .
ولأول مرة يبدو أن أمريكا ستصبح قوة استعمارية مباشرة في المنطقة، وفلسطين هي عنوان هذا الاستعمار وبالتالي غياب بعض الدول عن هذه القوة هو جزء من الحماية حتى لا يكونو شركاء القادم في القضاء على القضية الفلسطينية والفلسطينيين.
وبالنسبة لمصر والأردن قد يكونوا مضطرين للقبول بمخطط الشرق الاوسط الجديد ” ترامب ،نتنياهو” بسبب أوضاعهم الإقتصادية السيئة ومن يرفض المخطط الجديد، سيتم الضغط علية سياسيًا وإقتصاديا وقد يصل الأمر عسكريًا. ومصر والأردن يعلمان ذلك جيدًا، لذا قد يتكيفان مع المطالب الأمريكية والإسرائيلية دون أي محاولة للرفض.
كما أن أي مبادرات عربية أخرى لن تكون سوى أوراق موجودة في أرشيف التاريخ ليس أكثر ، لأن العرب للأسف لم يعودوا جزءًا من معادلة القوى الإقليمية أو الدولية.
وكثير من أنظمتهم موجودة فقط لأنها تنفذ الأجندة الأمريكية والإسرائيلية، وأي محاولة للتمرد ستؤدي إلى انهيارها وتفتيت مجتمعاتها الضعيفة أصلاً.
غياب السعودية عن القمة العربية ومعها معظم قادة دول الخليج وهي اللاعب الرئيسي الأن في الشرق الأوسط يؤكد أن قرارات القمة العربية لن تكون ذات تأثير
وما يحدث اليوم يؤكد أن الحضور السعودي في المشهد السياسي ليس صدفة، بل هو جزء من محور “أمريكا – إسرائيل – السعودية” يسانده المال العربي ممثلًا في السعودية و الإمارات وقطر. ودول أخرى قد تنضم تباعًا إلى هذا التحالف، ليترسخ واقع جديد يسعون فيه أن تتصدر فيه إسرائيل قيادة الشرق الأوسط، بينما تمد أمريكا نفوذها المباشر إلى المنطقة، وخصوصًا في غزة.
ورغم أن غزة هي جزء من النسيج الفلسطيني لكنهم الأن يريدون نزعها من فلسطين لتتحول إلى “الولاية الأمريكية 51″، وهذا لا يعني غياب النفوذ الأمريكي والسعودي عن الضفة الغربية، بل سيكون بشكل مؤسساتي لا سيادي. الضفة الغربية أصبحت تُعرف حاليا عالميًا كـ”يهودا والسامرة” وستتمدد إسرائيل على حساب فلسطين التاريخية، لكن دون غزة، التي ستصبح كيانًا منفصلًا تحت السيطرة الأمريكية المباشرة.
ما يحدث اليوم ليس مجرد صراع “فلسطيني-إسرائيلي”، بل إعادة تشكيل للشرق الأوسط الجديد وفق معادلة جديدة، تكون فيه إسرائيل القوة الإقليمية الأبرز، وأمريكا اللاعب المباشر، بينما تتكيف الدول العربية مع هذا الواقع.
أما بالنسبة لتهجير الفلسطينيين من غزة فالكيان الصهيوني لا يرغب في أن يكون تهجير الفلسطينيين من غزة إلى مصر أو الأردن حلاً نهائيًا أو دائمًا، بل تعتبرهما مجرد محطات عبور مؤقتة” ترانزيت ” والهدف النهائي هو تفتيت الفلسطينيين وتفريقهم لاحقًا في مختلف دول العالم مع إعطائهم جنسيات هذة الدول ليكونوا “مواطنين لا لاجئين “بحيث يتم قطع صلتهم بوطنهم الأم فلسطين نهائيًا.
فما يحدث في غزة من إبادة وتهجير هو تكرار نموذج الإبادة والتهجير الأرمني الذي قامت به تركيا قبل أكثر من 100 عام، حيث تم تفريق الأرمن في شتى أنحاء العالم، وأصبحوا مواطنين في الدول التي استقروا بها، بينما فقدوا ارتباطهم الفعلي بوطنهم الأصلي وتم القضاء علي وطنهم تماما وهذا ما يريدونه لفلسطين
فإسرائيل لا تستهدف الأرض فقط، بل تستهدف الفكر أيضًا ،فالهدف الإسرائيلي لا يقتصر على تهجير الفلسطينيين من غزة جغرافيًا فقط ، بل يشمل تفتيت عقولهم في شتي دول العالم فهي لا تريد فقط التخلص من الوجود الفلسطيني علي أرض فلسطين بل أيضا من الفكر الفلسطيني المعادي للوجود اليهودي علي أرض فلسطين التاريخية والرغبة في المقاومة أو الانتقام. وأصبحت إسرائيل تعلم جيدا أن أرض فلسطين لا تتسع لشعبين ” الفلسطيني والإسرائيلي ” ، لذلك قررت إسرائيل تفتيتهم وتوزيعهم علي كل دول العالم ومن خلال توزيع الفلسطينيين على مختلف الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة وأوروبا، تسعى إسرائيل إلى تحييد الأجيال القادمة وإضعاف أي نزعة وطنية قد تهددها مستقبلاً.
المخطط الإسرائيلي لا يتعلق بمجرد إخراج الفلسطينيين من غزة، بل بإعادة هندسة تركيبتهم السكانية والفكرية على مستوى عالمي، بحيث يتحولوا إلى شعوب مشتتة لا تمتلك أي قوة جماعية تمكنها من استعادة حقوقها وعلى رأسها حق ” عودة اللاجئين” وحق العودة لفلسطين التاريخية ..