هكذا بدأت السهرة الرومانسية.
ابتعتُ عدة أرغفةٍ من العيش باللحمة: “الحواوشي”، كما يُنطقُ بلسانٍ سكندري مبين. يعجبني أنها تحب الطعام الشعبي، ولا ترفض الغربي، بمدرستيه الإيطالية والفرنسية.
ذوقنا واحد، تتعاطى الحياة مثلي، تستقبل التجارب والحروب الخاسرة، بعناد ومجالدة واستهتار وبوهيمية.
ليست من سلالة “الجرمان”، بل من نسغ قلب هذا الوطن.
آهٍ.. كم أحب هذا الوطن؟
إنني أقتفيه وأبحث وأفتش عنه، حتى في شخصيات حبيباتي.
هل أحبها هي أم أحب سمات وطني فيها؟ ولماذا لا تكون الفواصل بين الحبيبة والوطن مشوشة في ذهني؟ فأحب في حبيبتي وطني، وأحب في وطني حبيبتي.
ألا يقول نزار قباني: “من لا يحبُّكِ يبقى دونما وطنِ”.
جدلية “الحبيبة- الوطن” تجترح سؤالا يفور في وجداني منذ أكثر من عقدين، حين كنت شابا يرتدي أفخر الثياب، وتتصل به منافذ بيع أسماء تجارية ذائعة الشهرة، لدعوته إلى الفُرجة، على التشكيلة الجديدة.
هذا زمان خرج ولم يعد، وسأجالد في معركة استعادته، حتى رمقي الأخير.
المحاولة قد تصنع نصرًا، والاستسلام لا يفضي إلا إلى الهزيمة.
ما علينا.. كانت علاقاتي النسائية واسعة النطاق، وكانت “المقررات” تسعى إليّ أكثر مما أسعى إليها، وكنت أقيم في الإمارات، حيث يعيش وافدون من شتى أصقاع الأرض، ومن ثم فالحسناوات فاكهة وأعناب ونخل ذات أكمام وحدائق ذات ريحان.
هذه شامية في عروقها دماء رومانية واضحة، يتهادى الموج الأزرق في خلجان عينيها، وتلك تونسية في رقة الياسمين، وأنوثة الأوركيد، لها ذائقة موسيقية مرهفة، وثمة عراقية قوية الشخصية، ترفض الخضوع للسيطرة كالمهور العربية الأصيلة، وهذه فلسطينية ثائرة تصنع بمهارة “المقلوبة”، وتحتسي من القهوة عدة فناجين يوميًا، ولا تحب الشاي مثلي.
كانت العلاقات من هنا وهناك، لكن قلبي لم يخفق في ثمانية سنين، مما تعدون، إلا لمصرية، ثم بعد انقطاع ما كان موصولا بسنوات، هزته فلسطينية خفيفة الظل، ممشوقة كرمح بدوي، وكانت تقول بزهوٍ: أنا مصرية، وروحي مصرية.
لقد أحب أبي امرأة مصرية، فتزوجها برضا أمي، التي عاملتها بشيئ من الأمومة، حتى اختطفها الموت في ريعان الصبا، قبيل ولادتي بأسابيع، فإذا بأمي تسميني شادية، تيمنا بضُرتها، وحتى تتذكر الراحلة متى نادت ابنتها الصغرى.
لعلي أحببتُ فيها “مذاقها المصري”، إن اللا وعي ماكر خبيث، يتحكم في سلوكياتنا من وراء ستار.
ها أنا أصعد بالمصعد أربعة عشرة طابقًا، استقبلتني بالارتماء في حضني، تبخترت حولي في دلال وخفة، وأنا أربتُ على رأسها، وأهمس: “سامحيني، لم أقصد الأذى، أنت تعرفين أني ما قصدتُ الإيذاء أبدًا، لكنها الأقدار يا حبيبتي، سأعوضكِ عن تلك الأيام الحالكة، ثقي أني سأصير أكثر اهتماما، وأكثر تحملًا لنوبات جنونك”.
انتهى الاستقبال..
وضعتُ زجاجة مياه غازية في الثلاجة، واغتسلتُ ورطبت جسمي بنوع لطيف من الكريمات، وارتديت ملابس قطنية خفيفة، ونقلت أريكة من “البامبو” إلى البلكونة، جلستُ مستكينًا وهي تضع ذقنها المدبب على فخذي، وشرعنا نأكل الحواوشي، تداعبني بنعومة تخرق مناطق الحنين، في قلبي، فأعطيها من الحواوشي، حتى أتت على رغيفين كاملين، فصرت أقدم لها من نصيبي، وهي ترمقني بعينين يفيض منهما الشوق، مثلما يتمنى المصريون أن تفيض المياه على أرضهم، بعد سد النهضة، ويسألون الله، أن يحفظ هذا البلد آمنا.. سلامًا على شعبه، ونارًا على من يعاديه.
لم أحظ من وجبتي إلا بأقل القليل،
ومازلت أجزل لها العطاء، فيما تلتهم بنهم ليس من عاداتها، ونفسي تحدث نفسي: إنها سعيدة بأن التداني هزم التنائي، وها هي تلتقيني، وها أنا ألتقيها، بعد مائتي وأربعة وثلاثين يوما، خلف القضبان القاسية، سوداء اللون والقلب معا.
إنني أحاول كبح عبرات البكاء، كلما نظرت في عينيها الطيبتين الدافئتين الحنونتين الذكيتين… المملوءتين أسرارا لا يقرؤها سواي.
“فاهمين بعض للدرجة دي يا بنت الكلب.. تعالي في حضني”. تقفز برشاقة، تخبئ وجهها في صدري، وترسل إلي من حين لآخر، نظراتها الحانية، ثم تعود فتضع رأسها مجددا في صدري… فأداعب شعرها الخشن نسبيا، فتتنهد مغمضة العينين في ارتياح وصفاء.
هكذا كان لقائي الأول مع كلبتي المظلومة “بيلا” بعد حرماني منها، وحرمانها مني، إثر سجني نحو ثمانية أشهر بتهمة الحب.