عندما قامت حركة الضباط الأحرار في يوليو 1952 كانت تهدف إلى مبادئ ستة هي القضاء على الإقطاع، والاستعمار، وسيطرة رأس المال على الحكم، و إقامة حياة ديمقراطية سليمة، وإقامة عدالة اجتماعية، وجيش وطني قوى.
وكان بيان الثورة الأول يوضح أن الجيش يطهر نفسة من الخونة والفاسدين والمتآمرين، وسيتولى الضابط أمرهم بنفسهم لتطهير الجيش، ويعمل لصالح الشعب محترما الدستور والقانون، وتفاءل الشعب وتفاعل معها قلبا وقالبا.
وحقا استطاع الجيش السيطرة على الأمور في البلاد، وأجبر الملك للتنازل عن العرش لولى عهدة الأمير أحمد فؤاد، وشكل مجلس وصاية على العرش، وبقى مجلس قيادة الثورة يقود البلاد، وسرعان ما بدأ الصراع على السلطة فريق يرى ضرورة تسليم أمور البلاد إلى سلطة مدنية، وفريق يصارع من أجل أن يبقى الوضع كم هو عليه.
فألغيت الملكية في 18 يونو 1953، وإعلان الجمهورية والتي كان رئيسها محمد نجيب، واستمر الصراع بينهما حتى نجح ناصر في إنهائه لصالحه بعد أزمة مارس، وتحديد إقامة محمد نجيب.
وبدأ عبدالناصر في تحقيق حلمة القومي العروبي، وفي صدام في الداخل مع الإخوان المسلمين والشيوعيين وكل من يعترضه.
لست هنا أتكلم عن إخفاقات عبدالناصر رمز الثورة، ولا خلافة مع رفقائه، ولا عن نكسة يونيو 67، ولا بناء السد العالي وتأميم قناة السويس.
أتكلم كمواطن مصري مضطرب الفكر لم يستطيع تكوين رؤية واضحة لفترة مهمة من عمر الوطن، وسط فوضى المذكرات الشخصية لكل من عاصر تلك الحقبة الزمنية، منها من أنزل علية أبلغ التوصيفات الحميدة، كما قال أنيس منصور في كتابة (عبدالناصر)، وتهجم عبدالمنعم أمين أو عبدالمنعم عبدالرؤوف وحسين حمودة و أحمد رائف في البوابة السوداء تجعلك تنفر من كل الأفعال التي ارتكبها عبدالناصر ورفاقه.
عندما شاهدت جنازة عبدالناصر والجماهير الغفيرة التي زحفت من كل حدب وصوب لتودع زعيمها وقائدها أنكر كل ما سمعت وما قيل عن عبدالناصر بأنه كان ديكتتاتور، فكل تلك الجموع من الشعب المصرى لن تخرج وهى تكره زعيمها، فالجماهير العربية فى سوريا كادت تحمل سيارته،وفى ليبيا وفى كل مكان ذهب الية كانت تحتشد الجموع لتشاهد وتسمعه، وذلك لم يكن الا حبا او أملا فى مستقبل ينتظرونه، لو أمالا وضعتها تلك الجماهير فى شخص عبدالناصر .
وفى الطرف الأخر تقرأ كنت رئيسا لمصر لمحمد نجيب الذى اعتقل من كرسى الرئاسة الى السجن والإهانة تبكى كيف تكون تلك نهاية رجل أمن لهم نجاح ثورتهم، وتتألم للظلم الذى سرده فهل هذا تجنى عليه ام كانت الحقيقية.
حتى السادات خليفته فى البحث عن الذات سرد أشياء لا أستطيع أنا ان أذكرها فى مقالى، لكن من قالها رئيس جمهورية ونائب عبدالناصر ومن رافقة سنوات طويلة، فقد تخلص السادات من كل الناصريين، وسمح للكتاب وللأقلام فى هدم عرش عبدالناصر عن قصد، حتى السينما فى احنا بتوع الأتوبيس والكرنك وغيرها كانت تسىء الى عصر عبدالناصر، فلماذا كانت جنازته حاشدة، ام فعل ذلك السادات غيره من ناصر حتى بعد وفاته.
زاد اضطرابى وانا ابحث عن الحقيقة، شاهدت كل اللقاءات التلفزيونية التى سجلها طارق حبيب صوت وصورة مع 122 من ضباط الثورة وقريبى الصلة بعبدالناصر قالوا أشياء لا تحتمل ولا يقبلها عقل عن عبدالناصر، وانهم أبعدوا لأنهم كانوا يصدحون بالحق ولا يريدون الظلم، من الظالم ومن المظلوم، ولماذا لم يستطيعوا أن يقولوا آرائهم فى عبدالناصر وهو حى بين أيديهم، أم حلت عقده ألسنتهم بعد موته.
تشتت مع د ثروت عكاشة فى مذكراتى فى السياسة والثقافة، وسرحت مع ابراهيم طلعت فى مذكراته، وضحكت مع محمود السعدنى فى الواد الشقى وحكاياته الظريفة رغم مرارتها، وقصة 23 يوليو لعبدالمحسن أبو النور، وكتاب اعتماد خورشيد وعلية توفيق وحسين حمودة وعبدالعظيم أنيس وأنيس منصور واحمد حمروش ويوسف صديق وما كتبه عبدالعظيم رمضان وصلاح الشاهد خالد محى الدين وغيرهم كثيرون مئات الكتب سطرت لفترة واحدة وبطرق مختلفة ووجهات نظر متغايرة فتهات الحقيقة، وترك لنا الخيار أن نصدق أو نكذب طبقا لأهوائنا.
فى اخيل جريحا لعبدالله السناوى الذى أقدره وقفت مشدودا فالرجل برغم ناصريته بقى شبه محايد ذكر الجانب الإيجابى وزاد فية ضوء ولمعانا، ومر سريعا على الإخفاقات بدعوى ان لكل انسان انتصاراته واخفاقاته وعبدالناصر بشر، وأنا مؤمن بتلك القدرية انه كان وطنى لكن من الإخفاقات مالم تستطيع سنوات التاريخ أن تمحوها كنكسة 67، واثارها التى نعانى منها الى تلك اللحظة.
منذ أيام كنت أقرأ كتاب (رجل من مصر) يحكى عن شخصية مصرية قبطية صنعت نجاحات فى مصر قبل أن تجبره الثورة على الهجرة الى كندا وهو يحمل عبدالناصر كل أخطاء معاونيه، فقد كان رجل أعمال تفائل بالثورة وأيدها، ولكن بعد العدوان الثلاثى حدث هجرة جماعية من الأجانب الموجودين فى مصر، او كما يقول الدكتور ابوالغار فى كتابة يهود مصر ان عبدالناصر لم يطرد اليهود انما أجبرهم على الفرار من مصر وجعل حياتهم كابوس، وهكذا يستكمل كمال اسكندر ان الحكم الشمولى سيطر على كل شىء والقطاع الخاص لم يعد له مستقبل بعد القوانين الإشتراكية التى اعلنها عبدالناصر فى 1961 وئدت مستقبل القطاع الخاص تماما، وهرب الاستثمار من مصر، وظهر مصطلح اهل الثقة أهم من اهل الكفاءة والخبرة، وهذا ما اوضحة الدكتور الجوادى فى كتابة مذكرات قادة الضباط الأحرار .
وهذا ما جعل أحد المهاجرين المصريين يقول يجب ان ندعو الى عبدالناصر فلولا سياستة الفاشلة ما كنا هنا اليوم (فى بلاد المهجر) نركب السيارات الفارهة ونستمتع بتلك الحياة من الحرية.
وعلى الجانب الاخر من يدعى ان الملك فاروق كان زير نساء ويشرب الخمر ويرتكب كل الحماقات، واخرون يعدون فضائل الملك فاروق واعماله الجليلة، ويؤكدون كما قال كريم ثابت انه لم يشرب الخمر يوما، وانة كان بإمكانه وئد حركة الضباط لكنه خشى ان تنزف دماء المصريين وتنازل لولى عهده ورحل كملك سابق وتلك رؤية اخرى تركنا فيها لأهوائنا.
كان العهد قبل حركة الضباط هو عهد الليبرالية الحقيقية، وحقبة الديمقراطية بلا منازع، حكومة الأغلبية هى من تحكم وبإرادة الشعب، بعدها ماتت الأحزاب ووئد معها الديمقراطية، ودخلنا عصر هيئة التحرير الى الاتحاد القومى الى الإتحاد الاشتراكى، حتى ظهرت المنابر فى عهد السادات.
سنبقى فى دائرة الشك مادامت الحقيقة غائبة، ومازلت اتذكر عندما تم الاعتداء على عبدالناصر ووقف يصرخ : أنا الذي علمتكم الكرامة.. وأنا الذي علمتكم العزة
يقول انيس منصور فى كتابه فى صالون العقاد كانت لنا أيام ان الاستاذ العقاد علق على تلك المقولة بقولة 🙁 إن شعبا يسمع مثل هذه العبارة ولا يثور عليه ويشنقه في مكانه، لشعب يستحق أن يحكمه ويدوسه بالنعال مثل هذا الرجل، إنه عندما قام بثورته هذه، وجد البيوت والشوارع وملايين الناس والأهرامات والثورات والجامعات ومئات الألوف من الكتب لقد سبقه إلى الوجود كل هؤلاء، وسبقته إلى القاموس كلمات أخرى غير العزة والكرامة، الغرور والغطرسة).
ولكن الأغرب من كل ما سبق ومن كل ما قرأت عن تلك الحقبة من اكتوا بنار التعذيب والاعتقال وتلقوا الاهانات والتنكيل وسحلوا ووقفوا عرايا فى التشريفة اليومية صباح مساء هم اشد المدافعين عن نظام جمال عبدالناصر .
وهذا هو السؤال الذى يحيرنى دائما وحتى تلك اللحظة، من اين اكتسب عبدالناصر كل ذلك الحب والذى ظهر فى جنازتة، فعندما سألت والدى قال يوم وفاته حملنا النعش فارغا وطوفنا به فى قريتنا نبكيه بكاءا مريرا .
ورغم ذلك لا نملك الا الرحمة له من الله فهو بين يدى العادل الحق .