سنوات كثيرة مرت ولم أذهب الى شجرة التوت، فهناك كان كل شىء ينمو، الأحلام والمستقبل، الطفولة نمت وترعرعت حول تلك الشجرة العتيقة، الشباب بكل شقاوته وشقائه.
فى موسم حصادها نتلقف ثمارها الطيبة، نتسلق فروعها وكأننا نشاهد احد الأفلام الهندية، نتبارى فى الصعود لأعلى قمتها، واحيانا نختبأ بين فروعها، وفى الظهيرة تأتى حكايات جدتنا عن امنا الغولة والجنية التى تخرج من البحر، تصنعنا الشجاعة والخوف، تعلمنا الصبر والمسؤولية، لو تكلمت تلك الشجرة لقصت عليكم الكثير من الحكايات والنوادر .
تطل مباشرة على الترعة الصغيرة، التى نهرب اليها من حرارة الشمس الحارقة، ونصطاف يوميا فى مياهها، لم نعطها ظهورنا ولم نبالى بالبلهارسيا التى تنهش فينا، ونفرح ونبتهج وكأننا على شواطىء الريفيرا، ونخرج لنجلس تحت الشجرة لنحكى حكايات لا تنتهى.
كانت دائما الملجأ بعد انتهاء اليوم الدراسى، نكتب واجباتنا ونستذكر دروسنا تحت ظلالها، ونرعي مواشينا بالقرب من ظلها، ومكان اجتماع كبار العائلة للراحة بعد عملهم الشاق، ومكان مستديم لتناول الغذاء والافطار احيانا، وفى احيان كثيرة تشهد الاتفاقيات بين الكبار والترتيب لإجتماع زواج أوصلح بين المتخاصمين، ونعود مع مغيب الشمس الى البيت.
تمنيت ان أذهب الى تلك البقعة التى تحمل كثير من ذكريات الطفولة، واحلام الشباب، والمستقبل، وسرت بين الحقول التى تبدلت بزراعات مختلفة بعد عدم الإلتزام بالدورة الزراعية، فرايت مبانى داخل تلك الأراضى فى تعدى سافر على ارضا خصبة كثيرا ما جادت بخيراتها لنا، واستمرت مشاعر الأسى طوال الطريق حتى وصلت الى الشجرة التى تعرت من اوراقها وبدت عليها ملامح الزمن، باهته بعد ان استولوا على الساحة تحتها، ووصل النحر الى عمودها الفقرى، وذهب كثير من فروعها التى ماتت ألما على ما حدث لها .
وكأنها تبكى زمن البرائة، فقد شاهدت اجيال واجيال جلسوا تحتها يحتمون بظلالها ويتنسمون عبير هوائها العليل، وينامون تحتها فى أمان وهدوء، واظنها نسيت كل التاريخ التى عايشته، وتبحث عمن يكتب لها الموت الرحيم ويقطع ما بقى من جذورها المتشبسة فى الأرض، فقد قالوا لى انها لم تعد تثمر ثمارها الطيبة، فقد كبرت كما كبرنا، وان لها ان ترحل، وليرحل معها كثير وكثير من الذكريات.