يعد الأتوبيس بيئة خصبة للحديث وتبادل النظرات، ومكانًا جيدًا يُحصِّل منه الباعة الجائلون رزق يومهم، هذا غير الأحاديث الجانبية للسائقين التي تشعرك أن هؤلاء لهم عالم خاص، لا يستطيع الركاب فهمه أو سبر أغواره، ولكن في ذات الوقت شهد الأتوبيس بوصفه وسيلة النقل الرسمية والشعبية عدَّة ثغرات ونقاط مظلمة أضرت بالركاب، وخلقت مع مرور الأيام بيئة عدائية بين السائق والركاب، أو بين الركاب وبعضهم بعض، أو بين السائقين أنفسهم، وهنا نحاول أن نرصد بعض هذه المشكلات ونفسرها حسب رؤيتنا الخاصة.
البنية التحتية والفوقية للأتوبيس
يقول كارل ماركس، إن البنية التحتية تؤثر في البنية الفوقية، وإن كان هذا لا يُحمل على الإطلاق، لكنه في النهاية واقع نرصده، فمَن يسكن في بيئة عشوائية تنهار فيها مقومات الجمال ومنظومة القيم والأخلاق، سيكون عشوائي الطباع والأخلاق والشخصية، ويتجلى هذا في حديثه ومظهره ومشيته، وغيرها من الأمور، عكس الذي ينشأ في بيئة نظيفة، الشوارع فيها ممهدة، على ناصية الشارع ونهايته سلة قمامة، الناس تخفض أصواتها خشية الإزعاج، الأطفال يمرحون تحت حماية واهتمام الوالدين، والناس في شؤونهم لا علاقة لهم بمن جاء ومن رحل، أو أسمعت حديث فلان وتقصيت أخباره، مما يخلق انتهاكًا للخصوصية، إذا نشأ فرد في بيئة كهذه ستتوفر له مقاومات الاتزان والهدوء النفسي وحسن إدارة المواقف والأمور، ولن تصيبه النزعة العدائية أو الهجومية التي تتملك كثير من الناس اليوم.
ما سبق طبقه على كل شيء، من المستشفيات والمدارس والمصالح الحكومية، والجامعات، حتى نصل إلى الأتوبيس، اليوم يرتاد الراكب أو الراكبة الأتوبيس، فيجد مقاعد متداعية وفي منتهى الرداءة، وأحيانًا تكون النوافذ محطمة، بل الأسوء من كل ذلك، أن يضع السائق المختل نسخة احتياطية من إطارات الأتوبيس، بجانب مقاعد الركاب أو أسفل أقدامهم، بالرغم أن سعر تذكرتهم ضعف تذكرة أتوبيس النقل العام والذي شهد تحسنًا طفيفًا في بعض مركباته، لكن هذا الأتوبيس التابع لجهات خاصة، صار مجهول الهُوية فهل هو مُباع أم تابع لشركة، أم تم استئجاره من مالك الشركة.
عشوائيات سائقي الأتوبيس
فما يظهر من عشوائية في سائقي هذه النوعية من المركبات، ينفي تمامًا تعاملهم مع جهات رسمية لا تقبل إلا الأوراق المعتمدة وشهادات حسن السير والسلوك وغيرها، فأبسط شيء يقوم به هؤلاء، أنهم يدخنون أثناء القيادة وهذا ممنوع بنص اللوائح والقوانين، وإذ اعترض أحد من الركاب، يردون بكل سفه ونزق، كأنهم نزلاء سجون لا مكان لهم بين المدنيين.
الأمر الآخر، أنني أشك أن مركباتهم تلك تُجرى لها صيانة، فيكفي أن تسمع صوت المحركات، والاهتزاز الشديد للأتوبيس، وستعرف أن هؤلاء القائمين على هذا المشروع، لا يهتمون إلا بجني المال، ويرون أن راحة الناس في جلوسهم وركوبهم رفاهية، وردهم المعلب، إن لم يعجبك، فلماذا لم تستقل تاكسي؟!
تداعي القطاع العام ورداءة القطاع الخاص
الحقيقة التي يجب أن ندركها أن تداعي القطاع العام، وصعود القطاع الخاص، أدى لإحداث ثغرة في المجتمع، فصفة الرسمية حينما نُزعت عن وسائل المواصلات، جعلت كل من هاب ودب، يعلن نفسه سائق مركبة، وهو في الحقيقة لا يرقى أن يقود حمارًا أو بغلة، فيكفي أن يبدل السائق الركاب مع سائق آخر بدون عذر فني، أو لا يلتزم بخط سيره، أو يتكاسل عن الوصول لآخر محطة له، من أجل أن يصل إلى الجراج، هل هذا تصرف مسؤول، هذا غير السائقين الذين يسبون بعض الركاب ويتشاجرون مع زملائهم، بسبب أمور حتى الآن لا أفهمها.
فلو كان هؤلاء تحت سلطة حكومية -قطاع عام- أو منظومة حقيقية تستطيع أن تنظمهم وإن كانت تابعة لجهة خاصة، لما رأينا هذا العبث وهذه التجاوزات التي لا تليق أطلاقًا بوطننا مصر، بل الأمر تسرب كذلك إلى سائقي التاكسي، بعد ما شهدناه من عمليات تحرش، ومضايقات وغيرها، مع حرصي وتأكيدي أن هناك من سائقي المركبات عمومًا، من هم آية في المهنية والأخلاق، ولا عَلاقة لهم بما سبق، إلا أن تلك الظاهرة صارت شاعة في كثير من سائقي الأتوبيس وتزداد انتشارًا؟!!!!
بين الإنسانية والحيوانية.. ما هو العمل؟
وأيضًا حتى لا نظلم سائقي الأتوبيس، فيجب أن نسأل أنفسنا هل ساعات العمل، وحالة المركبات، وما يتقاضونه، يساعدهم على عيش حياة مستقرة على الجانب المادي والمعنوي، الإجابة: لا، وهنا اقتبس من النظرية الماركسية التي تقول، إن بيئة العمل إذا لم تكن بيئة إبداعية وإنتاجية، اعتقد الإنسان أن عاداته الحيوانية مثل المأكل والمشرب والتناسل، هي العادات الإنسانية، بينما العمل والذي هو أعلى عادة إنسانية، من ضمن العادات الحيوانية، وهذا يؤثر بالضرورة سلبًا على الحالة النفسية للعامل في أي مجال، فيُحس أنه تحت سخرة العُملة، وأنه مهدد من صاحب العمل «الإقطاعي»، وأنه يعمل رغمًا عن إرادته لأنه إذا لم يعمل يمكن أن يتشرد، والأسوء أن يموت، فلماذا لا نساعدُ حكومةً وشعبًا على خلق بيئة صحية للعمال والطلاب والمارة، والركاب، وللناس أجمعين، حتى سائقي الأتوبيس.
من موقعي هذا، أناشد السيد وزير النقل والمواصلات، أن يطرح على الحكومة وعلى معالي دولة رئيس الوزراء هذه الملفات العاجلة، من أجل إصلاح الشارع المصري، وياليتهم يتجهون إلى المستشفيات الحكومية والمدارس والشوارع والأزقة القديمة، وأُذكر أننا في حاجة إلى حَراك يقوده المثقفون وأهل الاستنارة لإصلاح الشعب المصري، في الشارع وفي المدرسة وفي بيئة العمل، وفي كل مكان، حتى الأتوبيس.