البعض يرى أن الهجرة من الوطن بمثابة طوق نجاة وفرصة جديدة للحياة، خاصة إذا كان الوطن منهكا بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، بينما يرى آخرون أن خروج الروح أهون من الخروج بلا عودة من أرض الوطن.
القصص المرعبة والتفاصيل المؤلمة لقصص الهجرة غير الشرعية امتلأت بها الفضائيات والوثائقيات والصحف.
الجديد الذي عايشته محررة “الحرية” هو قصة هجرة غير شرعية لعضو حزب سياسي معارض ضاقت به سبل الحياة، فقرر أن يخوض رحلة الموت بحثا عن فرصة جديدة للحياة بعد أن هجر السياسة وهجره الأمل.
“ع-أ” شاب أربعيني عضو في حزب من أكبر الأحزاب المعارضة يرفض ذكر اسمه ويروي لـموقع “الحرية” تفاصيل قصته المؤلمة بقوله: إنه كان يعلم مدى خطورة القرار الذي اتخذه وأن الرحلة بالفعل ستكون مليئة بالمخاطر، ولكنه لم يدرك أن الواقع أصعب بكثير مما كان يتوقع، معلقا: “دي رحلة عذاب قبل الموت”.
تركت السياسة وعملت في تجارة اللحوم
“تراكمت عليا الديون لتصل إلى ٣٠٠ ألف جنيه، فبعد ان تركت السياسة تفرغت لمجال تجارة اللحوم عبر استيراد العجول من السودان، وعقب الأحداث الأخيرة بالسودان لم أستطع جلب العجول المتفق عليها بعد دفع ثمنها، وهو ما دفع شركائي إلى مطالبتي بأموالهم”
ومن هنا اتخذ قرار السفر “غير الشرعي”؛ ليحسن من أوضاعه ويسدد ديونه، مبررا أن السفر الشرعي سيأخذ وقتا أطول ويتطلب أموالا أكثر، ومن خلال تواجده بالسوق عرف طريق الهجرة غير الشرعية لـ “ليبيا” عبر السلوم.
خيانة
قبل أن يتخذ “ع-أ” قرارا نهائيا بالسفر؛ حيث تواصل مع أحد معارفه وسأله بطريقة غير مباشرة عن أوضاع السفر بطريقة غير شرعية، فأبلغه أن هذه القبائل خونة وبمنتهى البساطة يقومون بتسليم مجموعات معينة مقابل تسهيل تهريب مجموعات أخرى..
الطريقة الوحيدة للنجاة من الموت
يكشف “ع ا” عن الطريقة الوحيدة للنجاة من الموت في حال اكتشاف قوات الأمن لعملية الهجرة غير الشرعية بقصة مرعبة بقوله: إنه فوجئ ذات يوم باتصال من صديق يخبره بأن شقيقه كان يحاول السفر بطريقة غير شرعية وتعرضوا لإطلاق الرصاص عليهم من قبل قوات الشرطة ، فاختبأوا داخل الجبال ، ومن أجل ضمان عدم إطلاق قوات الأمن النار عليهم يجب أن يقوم بإضاءة كشاف الهاتف مرتين، وفي هذه الحالة يطلق رجل الأمن صيحة “ثابت” فيرد المهاجر غير الشرعي: “أنا مش معايا سلاح”، ويضع يده على رأسه ويقوم بالزحف على الأرض”، ثم يقوم بإنارة الكشاف مرة أخرى ويطلب منه المساعدة ويؤكد على عدم وجود سلاح مرة أخرى أيضا” ويسأل الشرطي: ” أفضل في مكاني ولا أستمر في الزحف”؟
وتابع “ع ا “: “عرفنا بعد ذلك أن الإجراء القانوني في المرة الأولى التي يتم ضبط مهاجر غير شرعي فيها هي تحرير محضر ثم إخلاء سبيله والمرة الثانية حبس ٦ أشهر وغرامة مالية ١٠ آلاف جنيه.
واستطرد: ” ومن هنا اطمأن قلبي وعلمت ماذا سيحدث حال إلقاء القبض عليه أو محاصرته “.
كلمة السر
يواصل “ع. ا”حديثه مع “الحرية” ليكشف باقي تفاصيل رحلته المرعبة مشيرا الي أنه اتفق على كلمة سر مع أحد أصدقائه؛ حتى لا يخسر حياته وأمواله أيضا: “مش هيبقى موت وخراب ديار”؛ حيث إن المتفق عليه أن أهله أو أي شخص من طرفه يرسل لهم الأموال بعد الاطمئنان على وصوله؛ وهنا كانت كلمة السر بينه وبين صديقه”: “هات الفلوس من الفيزا”، ويعني أن الوضع غير مستقر أو “حول الفلوس”، وتعني أن الوضع مستقر وهو بخير.
نقطة الانطلاق
في الواحدة صباحا يوم الأحد السابع من مايو.. استقل “ع-أ” قطار مغاغة – دمنهور ثم دمنهور- مطروح حتى وصل في حدود الساعة الرابعة ونصف عصرا، ليرسل له المهرب ،”سائق تاكسي” في حوالي الساعة السادسة مساء، وبعد أن بدأت الرحلة داخل محافظة مطروح وصولا للحدود.. بدأ سائق التاكسي في التواصل مع هاربين آخرين ليصبح معه ثلاثة أشخاص آخرين لم يكن يعرفهم، ولم يدر بينهم أي حديث طيلة الطريق، حتى وصلوا إلى مدينة السلوم، وتحديدا قبلها باثنين كيلومتر ليخبرهم سائق التاكسي بضرورة النزول، وكان في استقبالهم طفل يتراوح عمره بين 12 لـ 15 عاما، وهو ما يعرف بـ”الدليل”، أي الذي يدلهم على طريق السير ، إضافة إلى ما يقرب من مائتي مهاجر غير شرعي.
دور قبيلة أولاد علي في التهريب
قبل تقسيم الحدود كانت قبائل “أولاد علي” تعيش بمنطقة واحدة، ثم انفصلوا، جزء بمصر وجزء بليبيا، ورغم مرور سنوات كثيرة على تقسيم الحدود إلا أن جميع أفراد القبيلة مازالوا على تواصل، بل ويعملون سويا في محاولات التهريب، ويعتمدون على أطفالهم في استكشاف الطرق لاستبعاد الشكوك عن الأطفال “.. بحسب ما رواه “ع-أ”.
ضرب وشتائم قاسية وخرطوم كهربائي لتأديب المهاجرين
يسرد “ع. ا” باقي تفاصيل رحلته المحفوفة بكل انواع المخاطر قائلا: “منذ لحظة الوصول للسلوم وحتى ليبيا ، تلك المسافة يقطعها المهاجرون سيرا على الأقدام ويتأكد الدليل أن جميع المهاجرين قد أغلقوا هواتفهم”.
البداية من منطقة الهضبة وبدأوا يتسلقون الجبال والمرتفعات، وكان يسبقهم “دليل وخلفهم دليل”، وأحيانا في المقدمة ثلاثة أدلة، كل دليل منهم يركب حمارا.
الدليل القائد يعرف الطريق جيدا وبعد مسافة نصف كيلو متر تقريبا يجد علامة مميزة توجهه للطريق، وبجوار العلامة يجد هاتفا محمولا، يغلق القديم ويتركه بنفس المكان ثم يستخدم الجديد ، وهكذا وتكرر هذا الأمر حوالي ثلاث مرات.
وذكر “ع-أ” أن رحلة السير أحيانا رحلة تكون مشيا، وأحيانا جريا، والدليل من الخلف يقوم بضرب المهاجر باستخدام خرزانة غليظة وخرطوم كهربائي في حالة تأخره أو بطئه في الحركة، فضلا عن أبشع الشتائم والإهانات، في حين إعطائهم تعليمات مفاجئة بين الوقت والآخر مثل: ،”أقف مكانك، نام على بطنك، اقعد، ماتبصش يمين ولا شمال ” وهكذا.
وتابع قائلا : “خلال هذه الفترة بدأ الشباب يتركون أغراضهم وحقائبهم التي لا يستطيعون حملها في ظل المجهود الشاق والمسافات الطويلة التي يقطعونها جريا ومشيا، حتى أن شابا من كثرة الإرهاق والضرب تركه الدليل وسط الصحراء واستكمل رحلته، وآخر سلم نفسه لحرس الحدود، أما أنا فقد أصيبت قدمي وحملني ثلاثة شباب وجروا بي حتى أحسست أن رجلي أصبحت أفضل، وبدأت الجري مرة أخرى وسط إهانات وسيل من الشتائم وضرب ما زال أثره بجسدي حتى الآن”.
كهف العقارب
بعد رحلة سير استمرت أكثر من ثلاث ساعات بين الجبال استقبلتهم سيارة دفع رباعي نقلت تلك المجموعة إلى مكان قريب من الجبل وطلب السائق منهم المشي حتى الوصول لمصدر الضوء، إذ كان بانتظارهم شخص يحمل كشافا ضوئيا على بعد حوالي ثلاثة كيلو مترات، وأخذ منهم جميع هواتفهم وطلب من كل شخص مائتي جنيه مقابل انتظارهم داخل مكان يشبه الكهف وتحاوطهم العقارب والذئاب، وكان داخل الكهف حوالي ثلاثمائة شخص يأكل البرد في أجسادهم
الخروج من الكهف وتغيير الدليل
في السابعة صباحا من اليوم التالي سلمهم الدليل هواتفهم وطلب منهم النزول إلى أسفل الجبل ليجدوا بانتظارهم مجموعة مكونة من حوالي عشرة أشخاص لا يتجاوز عمرهم خمسة عشر عاما وبدأوا بتوجيه الأسئلة: “فين مجموعة فلان ومين محافظة كذا؛ حيث كان لكل محافظة اسم وكلمة سر، وكانت مجموعة الشاب الثلاثيني هي مجموعة أبو عبدالله أو مجموعة الأسد، وكلمة السر كانت “الزعيم”، وكانت هناك كلمات سر أخرى مثل: ريكراكي والونش وغيرهم.
رغيف العيش بـ٢٠ جنيها
يتابع “ع. ا “: “يصل المهاجرون إلى مخزن جديد وسط جبال السلوم، والمخزن مصطلح متداول بين المهربين، به غرف غير آدمية ومساحتها ضيقة للغاية، يتم وضع المهاجرين فيها، وهناك كان ينتظر أيضا مجموعة أخرى من المهاجرين،
وكان المهاجرون قد هلكوا من المجهود والجوع والعطش ودخل عليهم أشخاص لبيع الطعام: علبة جبنة بعشرين جنيها، رغيفا خبز بعشرين جنيها، زجاجة مياه بعشرين جنيها.
تهريب المخدرات ملاذ آمن للمهاجرين
أدرك “ع” أنه من ضمن المجموعة التي ستصل بسلام، عندما علم أن مجموعته سيتم تهريب مخدرات معهم، وليس من المنطقي أن يضحوا ببضائع بالملايين، فاطمأن قلبه قليلا وأحس أن هذا الرعب الذي يعيشه حتما سينتهي قريبا، خاصة أن مجموعته كانت آخر مجموعة ستتحرك بعد الاطمئنان من استقرار الطريق، وكان عددهم تقريبا ثلاثمائة شخص من أصل ألفي شخص، منهم من هرب ومنهم من تم تسليمه ومنهم من تم إلقاء القبض عليهم ومن تم إصابته بالرصاص .
أخيرا الوصول إلى ليبيا
استكمل المهاجرون رحلتهم في الخامسة مساء، ووصلوا ليبيا، وتحديدا منطقة “مساعد” في السادسة صباحا، وساروا وسط طريق ملئء بالوديان والهضاب، وظلوا يمشون مسافة تصل لحوالي ثمانين كيلو مترا وسط تعليمات من الدليل حال ظهور أفراد حرس الحدود مثل: “لو عسكري قال لك: “ثابت” اجري وانزل تحت، مش هينزل وراءك؛ لأنها مناطق وعرة جدا، وممنوع تبص يمين او شمال عينك أدامك “، ومروا بحقلي ألغام: حقل بمصر وحقل بليبيا، الحقل المصري مروا كل شخص على حدة، أما الحقل الليبي مروا في صف واحد.
أثناء مرورهم الحدود الليبية تفاجأ المهاجرون بإطلاق كم كبير من الرصاص عليهم من قبل حرس الحدود تارة، ومن قبل الميليشيات تارة أخرى، والذين نجحوا بالفعل في احتجاز حوالي مائة شخص؛ تمهيدا للتواصل مع أهاليهم في مصر وطلب فدية.
حتى وصل المجموعة المتبقية إلى مخزن بمنطقة مساعد بعد مرور حوالي ثلاثة عشر ساعة، وظلوا طيلة هذه المدة بلا طعام وشراب.
وهنا لم تكن النهاية ولم تتوقف الإهانة ولم يصلوا إلى نقطة الأمان .