في زمنٍ غريب، حيث تُباع المبادئ في سوق النخاسة، ويُقايَض الضمير بحفنة من المكاسب، نقف اليوم شهوداً على مشهد مؤلم، موت الضمير الجمعي وانتصار الأنانية البغيضة.
لم يعد مستغرباً أن نرى من يغلق نوافذه على صراخ الضحايا، ويرفع صوت الموسيقى ليحجب أنين المظلومين، لم يعد غريباً أن نشهد تحول المبادئ إلى مجرد شعارات جوفاء، يتغنى بها أصحابها في المجالس، ويدفنونها في أول اختبار حقيقي.
نعيش عصر «الواقعية السياسية» – كما يسمونها – حيث يتم تبرير كل خيانة باسم المصلحة، وكل تخاذل باسم الحكمة، وكل جبن باسم العقلانية؛ أصبحت البراغماتية قناعاً قبيحاً لتبرير التخلي عن القيم والمبادئ.
ها هم قادة يجلسون على كراسيهم المخملية، يتحدثون عن الحكمة والتعقل، بينما شعوبهم تنزف. يتشدقون بالمصالح الاستراتيجية، وكأن مصير الإنسان وكرامته ليسا من الاستراتيجيات العليا التي يجب الدفاع عنها.
المأساة الحقيقية ليست في سقوط القيم فحسب، بل في محاولة تجميل هذا السقوط وتسويقه كنوع من «النضج السياسي»، وكأن التخلي عن المبادئ أصبح علامة على الحنكة والدهاء، لا دليلاً على الانحطاط والتردي.
في عالم اليوم، أصبح الصمت ذهباً، والتخاذل حكمة، والأنانية واقعية. تحولت المصالح الشخصية إلى إله جديد، يُقدم له القرابين من لحم الضعفاء ودماء الأبرياء.
لكن التاريخ يعلمنا درساً قاسياً: أن الأمم التي تبيع مبادئها لن تجد من يشتري كرامتها حين تُعرض في سوق النخاسة، وأن من يغلق أذنيه عن صرخات المظلومين، سيجد نفسه وحيداً حين يصرخ.
إن الذين يبررون تخاذلهم اليوم بحجة المصالح والواقعية، سيكتشفون غداً أنهم لم يحموا مصالحهم، بل باعوا أرواحهم. فالتاريخ لا يرحم المتخاذلين، والأجيال القادمة لن تغفر لمن باع ضميره بثمن بخس.
نحن اليوم أمام مفترق طرق: إما أن نستعيد إنسانيتنا ونقف في وجه هذا الانحدار الأخلاقي، أو أن نقبل بأن نكون مجرد أرقام في معادلة المصالح، نُباع ونُشترى في سوق السياسة.
فهل حقاً “مفيش فايدة”؟
نعم،
طالما بقي الضمير في غيبوبته، وظلت المصالح الشخصية هي البوصلة التي تحدد اتجاه السفينة.
لكن التاريخ يخبرنا أيضاً أن الشعوب الحية لا تموت، وأن الضمائر النائمة قد تستيقظ يوماً، وحينها… سيكون للحساب وقت آخر.