في خضم التحولات السياسية والاجتماعية التي تشهدها المجتمعات، يبرز جدل محتدم حول مفهومين أساسين : الاختلاف مع السلطة والاختلاف مع الوطن. هذا الجدل ليس مجرد نقاش أكاديمي، بل هو صراع فكري يمس جوهر الممارسة الديمقراطية وقيم المواطنة.
فالاختلاف مع السلطة هو روح الديمقراطية النابضة، إنه الصوت الذي يصرخ في وجه الظلم، والقلم الذي يخط مسارات الإصلاح، والعقل الذي يتحدى الأفكار الراسخة. هذا الاختلاف ليس ترفاً فكرياً، بل هو ضرورة حتمية لتطور المجتمعات وازدهارها.
يقول توماس جيفرسون بحكمة بالغة: «عندما يخاف الناس من الحكومة، فهناك استبداد. عندما تخاف الحكومة من الناس، فهناك حرية».
هذه الكلمات تجسد جوهر العلاقة بين الشعب والسلطة، حيث يكون الخوف المتبادل هو الميزان الذي يحدد طبيعة النظام السياسي.
المعارضة البناءة هي صمام الأمان للديمقراطية. إنها تراقب، تنتقد، تقترح، وتدفع نحو التغيير. المهاتما غاندي، رمز النضال السلمي، يؤكد هذا المعنى بقوله: “عدم التعاون مع الشر هو واجب مثلما أن التعاون مع الخير هو واجب.” هنا يرسم غاندي خطاً فاصلاً بين الولاء الأعمى والمعارضة المسؤلة.
في المقابل، يقف الاختلاف مع الوطن كنقيض صارخ. إنه ليس مجرد رأي مخالف، بل هو انفصال عن الهوية الوطنية وفقدان للانتماء. هذا الاختلاف يتجاوز حدود النقد البناء ليصل إلى حافة الخيانة. إنه يعني العمل ضد مصالح الوطن وتقويض أسس الأمن القومي.
نيلسون مانديلا، الذي عانى من ظلم النظام العنصري، يقدم نموذجاً فريداً في التمييز بين نقد السلطة وحب الوطن. بقوله:
«أحب وطني، لذلك أنتقد حكومته.” هذه الكلمات تجسد التوازن الدقيق بين الولاء للوطن والرغبة في الإصلاح».
إن الخلط بين هذين المفهومين ليس مجرد خطأ لغوي أو فكري، بل هو خطر يهدد أسس الديمقراطية وقيم المواطنة. عندما يتم وصم كل معارض بالخيانة، وكل ناقد بالعمالة، فإننا نغلق أبواب الحوار ونفتح أبواب الاستبداد.
الوعي بهذا الفرق هو مسؤولية جماعية. على المواطن أن يدرك أن نقده للسلطة هو تعبير عن حبه لوطنه ورغبته في تطويره. وعلى السلطة أن تفهم أن المعارضة ليست عدواً للوطن، بل هي شريك في بناء مستقبله.
جون ف. كينيدي يلخص هذه الفكرة بعبارته الخالدة: «لا تسأل ما يمكن أن يفعله وطنك من أجلك، بل اسأل ما يمكنك أن تفعله من أجل وطنك».
هذه الدعوة للعمل الإيجابي تتجاوز ثنائية السلطة والمعارضة، لترسم صورة للمواطن الفاعل والملتزم.
إن مسؤولية فهم وترسيخ الفرق بين الاختلاف مع السلطة والاختلاف مع الوطن لا تقع على عاتق المواطنين وحدهم؛ فللسلطة دور محوري وحاسم في هذه المعادلة. فالسلطة الرشيدة هي التي تدرك أن قوتها الحقيقية تنبع من قدرتها على الاستماع للآراء المختلفة والاستفادة منها، لا من قمعها أو تجاهلها.
وعلى السلطة أن تعمل على: تشجيع الحوار المفتوح: بخلق منصات حقيقية للنقاش العام حول القضايا الوطنية، مما يسمح بتبادل الآراء بحرية ومسؤولية ودون انتقائيه .
كما أن عليها مسئولية حماية حرية التعبير وحماية حق المواطنين في التعبير عن آرائهم دون خوف من الملاحقة أو الاضطهاد، وتقبل النقد البناء: بالنظر إلى الانتقادات كفرص للتحسين والتطوير، لا كتهديدات يجب قمعها.
كما انها مسئولة عن التمييز بين المعارضة والخيانة: عبر وضع معايير واضحة تفرق بين النقد المشروع والأعمال التي تضر بالأمن القومي، وكذلك تعزيز الثقافة الديمقراطية وترسيخ قيم المواطنة والمشاركة السياسية الفعالة.
كما قال ونستون تشرشل: «النقد قد لا يكون ممتعًا، ولكنه ضروري. إنه يؤدي نفس وظيفة الألم في جسم الإنسان؛ فهو يلفت الانتباه إلى تطور الأمور بشكل غير صحي»، هذه الكلمات تلخص بدقة الدور الحيوي الذي يلعبه النقد في الحفاظ على صحة المجتمع وتطوره.
والسلطة الحكيمة هي التي تدرك أن قوة الوطن تكمن في تنوع آراء أبنائه وقدرتهم على التعبير عنها بحرية ومسؤولية. فعندما تنجح السلطة في خلق بيئة تحترم الاختلاف وتشجع على النقد البناء، فإنها بذلك تبني حصنًا منيعًا ضد الانقسام الحقيقي وتعزز الوحدة الوطنية .
وفي النهاية المطاف وإذا كنا نسعي جميعا الي بناء وطن قوي ومزدهر فان الامر يتطلب جهدا مشتركًا من السلطة والمواطنين على حد سواء، فالسلطة التي تحترم حق مواطنيها في الاختلاف، والمواطنون الذين يمارسون هذا الحق بمسؤولية ووطنية، هم معا يشكلون الضمانة الحقيقية لاستقرار الوطن وتقدمه.
هذه الكلمات ليست شعارات جوفاء، بل هي دعوة للتسامي فوق الخلافات السياسية والفكرية من أجل المصلحة العليا للوطن.
طارق العوضي
المحامي بالنقض
القاهرة في 16 اكتوبر 2024