انور الهواري في كتابه ترويض الاستبداد:
الحرية قضية مستقبل وقضية هوية ووجود وحياة ومصائر أفراد وشعوب
التدريب على الحرية والديمقراطية أجدى من مصادرتها من جذورها!
تلك واحدة من أبرز خلاصات وأفكار الكاتب الصحفي الكبير أنور الهواري في كتابه ترويض الاستبداد عن روافد للنشر والتوزيع 2022. الكاتب صدر كتابه بمقولة لجون ستيوارت مل (1806-1873)، نصها: “ومهما يكن الإنسان نبيلًا وشجاعًا وشريفًا فإنه لا يستطيع مواصلة تفكيره العقلاني في مناخ من الاضطهاد”.
شخصيًا لم أر الهواري أكثر وضوحًا كما رأيته في سطور هذا الكتاب، يضع يده على موضع الداء مباشرة دون مواربة، خاصة في تناوله لقضايا الديمقراطية والحريات والمواطنة، متسلحًا بخبرة تمتد لعقود مارس فيها الكتابة ورأس فيها تحرير مجلة الأهرام الاقتصادي، وكان أول رئيس تحرير لصحيفة المصري اليوم إلى جانب تجارب صحفية أخرى، وكتابات منتظمة للعمود الصحفي بعدة صحف يومية.
يتضح في الكتاب تأثر الهواري بأفكار المفكر البريطاني جون ستيورات مل، وبخاصة كتابه في الحرية On liberty، الذي أورد عنه عدة اقتباسات، أما الحرية بكل تجلياتها لدى الهواري فهي قضية مستقبل، وبالقدر ذاته هي قضية هوية ووجود وحياة ومصائر أفراد وأقدار شعوب وخيارات واقع عملي.
الخديعة!
قبل عشر سنوات ظنت بعض الشعوب العربية أنها على موعد مع الديمقراطية، ولكنها اكتشفت أنها كانت على مواعيد كثيرة ليس منها الوعد الديمقراطي. بعض الشعوب انتقلت من الديكتاتورية إلى الفوضى، ثم إلى الحرب الأهلية، ثم إلى شبح التقسيم ومازالت لم تعرف مخرجاً قريباً مما هي فيه. ثم بعض الشعوب انتقلت من ديكتاتوريات صلبة وفعالة إلى ديمقراطيات هشة وغير مثمرة، وبعضها كان محظوظاً بحيث انتقل من ديكتاتورية مستقرة إلى ديكتاتورية طارئة وعابرة ومؤقتة لم تستمر أكثر من عام واحد عادت بعده إلى طبعة جديدة من الديكتاتورية المستقرة بدعوى الحفاظ على الدولة وتثبيتها في لحظة عاصفة وإقليم مضطرب وعالم متغير. الحلم الديمقراطي كان أكبر من الواقع وأكبر من الإمكانات حتى لو كان قد بدا في لحظة معينة أنه حلم قريب المنال وأن أحقاب الديكتاتورية استنفدت أغراضها وباتت عاجزة عن الاستمرار.
من وجهة نظر الأستاذ أنور الهواري فإن مشكلة بلادنا هي بالدرجة الأولى مشكلة سياسية، يعني مشكلة حكم وقيادة وإدارة وتوجهات عامة وطريقة حساب المصالح ورسم الأولويات وتخصيص الموارد وتوظيفها. مشكلة بلادنا، بصياغة مبسطة موجزة هي: من يحكم، وكيف يصل إلى الحكم، وكم يبقى في الحكم، وكيف يمارس الحكم، وما الصلاحيات الممنوحة له في ممارسة الحكم، وما القيود المفروضة عليه في ممارسة الحكم، ولصالح من يحكم، وما نوع السياسات الاجتماعية والاقتصادية التي يطبقها في الحكم، وما طبيعة العقد الاجتماعي الذي يرسم بينه وبين عموم الشعب، وكيف يتعامل مع مجموع السلطات والمؤسسات سواء المنتخبة أو البيروقراطية، ومتى وكيف يخرج من الحكم، وكيف يسلم السلطة لمن يخلفه؟
والديمقراطية التي يعنيها الكاتب ويقصدها ليست الصخب ولا الضجيج ولا الصوت العالي إنما هي باختصار شديد، تمكين عموم المواطنين من اختيار الحكام بحرية ونقدهم ومحاسبتهم، ومعارضتهم بأمان وعزلهم بالقانون والدستور عندما تقتضي المصلحة العامة عزلهم، وذلك في مجال عام مفتوح ومنضبط، في الوقت ذاته يمكن المواطنين من امتلاك الوطن وممارسة السيادة، بما يعود عليهم بالارتقاء الأدبي والتقدم المادي والرضا النفسي والإحساس بجودة الحياة وجدارتها واستحقاقها.
في حرية الكلام
هل نكون نحن أنفسنا فيما يتعلق بحرية الكلام؟ يجيب الهواري: نحن شعوب البلدان المتأخرة في التطور الديمقراطي، نولد ونعيش ونموت محرومين من الاستمتاع بحق الكلام في كثير من القضايا التي تعنينا كأفراد وكمجتمعات، وهذا الحرمان من حق الكلام فيما قل أو كثر من القضايا هو في الوقت ذاته حرمان من حق التفكير الحر، وهذا الحرمان من حق التفكير يعني تنشئتنا وتطويعنا وتدريبنا على ألا نكون أنفسنا فذلك خطر علينا وأن نكون غيرنا أو مثل غيرنا فذلك أمان لنا ولمن حولنا.
في حديثه عن الحرية المدنية والاجتماعية: يرى المؤلف أن يكون الحكم ومؤسسة الحكم تحت تصرف الشعب باعتباره ليس حشودا من الرعايا، وإنما هو مالك الوطن ملكية فعلية على وجه الحقيقة وليس الافتراض النظري أو التخيلي، وبحيث تعني الحرية المدنية والاجتماعية، أن يتمتع كل فرد بحقه كاملا في حرية التفكير ثم حرية التعبير، ثم حرية الإرادة، ثم حرية القرار، ثم حرية الفعل المسؤول، وذلك كله من دون وصاية من خارج ضميره وعقله وذوقه واختياره، فتاريخ الإنسان عموما هو السعي الدؤوب لفهم السلطة وترويضها.
يؤكد الكاتب أن الإنسان يولد فتصدر له شهادة ميلاد ووثيقة تحفظ له بعض حقوقه، وحين يموت تصدر له شهادة وفاة وبين المحطتين والشهادتين، أي بين الميلاد والوفاة، يعجز إنسان هذه المنطقة من العالم عن الحصول على الشهادة الأهم وهي “شهادة المواطنة”، التي تثبت أن الإنسان هو مواطن جديد شريك حقيقي وفي ملكيته هذا الوطن وليس مجرد عابر سبيل تنقضي رحلته بين مولده ووفاته.
الخوف من الديمقراطية
في تناوله للديمقراطية يشير المؤلف إلى الخوف من الديمقراطية، وهو أمر وارد فعيوبها كثيرة ومشاكلها عديدة، يمكن قصرها وتفهمها واستيعابها لكن المشكلة ليست في الخوف منها، فلسنا أول من يخاف منها، وكذلك ليست المشكلة في عيوبها، فلسنا أول من واجه عيوبها، المشكلة تكمن أساسا في استخدام الخوف من الديمقراطية، كذلك استخدام عيوب الديمقراطية أداتين فعالتين، لتبرير التنكر لها وإدانتها والانقلاب عليها وتحميلها مسؤولية ما ارتكبت ومالم ترتكب، ثم الذهاب بعد ذلك في الطريق الآخر وفي الاتجاه المعاكس حيث تزيين الديكتاتورية وتجميل الاستبداد وتبرير حكم الفرد وتمرير هيمنة الأقلية وتسويغ الحكم بالحديد والنار .
ويخلص الكتاب إلى أن الخوف من الديمقراطية لا يبرر اعتماد الديكتاتورية مشروعا سياسيا باعتبارها الضامن لهيبة الدولة وسبيلها الوحيد للحفاظ على تماسك الأمة ووحدتها وسلامة ترابها الوطني وحماية الاستقرار الداخلي وصيانة المصالح الوطنية في الإقليم والعالم.
يناقش الكتاب باستفاضة الخبز والحرية، الحرية والاضطهاد وصولًا إلى ضبط واحضار الحرية، ومدى جاهزية الدول للديمقراطية، التي يرى من ضروراتها القوة، فيقول: “الديمقراطية يلزمها دولة قوية، تتحملها وتستوعبها وترعاها، وتؤمن بها وتحميها وتوفر لها الإطار والأفكار والأدوات والمؤسسات والمناخ اللازم لاستمرارها ولضمان عدم انحرافها عن الغاية منها.”
وهكذا ولدت الديمقراطية الأولى في التاريخ في أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد ووجدت الديمقراطية الثانية مكانها في بريطانيا في القرن السابع.
الديمقراطية حقيقة وقضية وجود في الحاضر والمستقبل ولأنها حقيقة، لا أجد أفضل من خلاصة الكاتب التي ذهب فيها إلى القول: “تعيش الحقيقة أو بعض الحقيقة كثيرًا من الزمن أو قليلًا بقدر ما تجد من يدافع عنها في وجه خصومها، فهل من مدافعين