شهد يوم 9 مارس عام 1919 انطلاق ثورة شعبية عارمة في مصر، اتحد فيها جميع أطياف الشعب، لتُعرف بـ “ثورة 1919″، لم تكن هذه الثورة مجرد انتفاضة عابرة، بل تحولت إلى نقطة تحول مفصلية في تاريخ مصر، بل وأصبحت مصدر إلهام لحركات التحرر والنضال في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك حركة المهاتما غاندي في الهند.
قاد هذه الثورة قادة وطنيون اتسموا بالحكمة والدهاء والثقافة، واستطاعوا بفضل قوة إرادة الشعب المصري فرض كلمتهم على بريطانيا العظمى، التي اضطرت بعد فشلها في قمع الثورة، إلى الاعتراف باستقلال مصر عام 1922، وجاء هذا الاستقلال على مرحلتين الأولى بتسليم وثيقة الاستقلال للثورة المصرية بقيادة سعد زغلول في 28 فبراير 1922، والثانية بتأسيس المملكة المصرية بقيادة الملك أحمد فؤاد الأول في 15 مارس 1922، حيث تحول لقبه الرسمي من سلطان مصر إلى ملك مصر.
لم يقتصر تأثير ثورة 1919 على المجال السياسي، بل امتد ليشمل المجال الاقتصادي، حيث أفرزت الثورة نهضة اقتصادية كبيرة، تجسدت هذه النهضة في تأسيس بنك مصر عام 1920، الذي حفز ظهور كيانات اقتصادية جديدة وتوسيع أنشطتها.
وأصبح ملاك هذه الكيانات من رواد الرأسمالية الوطنية في مصر، ومن بينهم شخصيات بارزة في الحركة الاقتصادية المصرية، مثل المهندس أحمد عبود باشا، صاحب مصانع السكر بالحوامدية ومالك أضخم أسطول نقل بحري في الشرق الأوسط خلال النصف الأول من القرن العشرين، بالإضافة إلى محمد سيد ياسين بك “ملك الزجاج” وفرغلي باشا “ملك القطن” وغيرهم من الأسماء المؤثرة التي تركت بصمتها في الاقتصاد المصري.
حاول بعض المؤرخين والسياسيين المنتمين إلى فترة ما بعد ثورة يوليو التقليل من أهمية استقلال 1922، زاعمين أنه كان مجرد “تفضل” أو “تنازل” من الاستعمار البريطاني، وأن الاحتلال استمر فعليًا حتى إجلاء القوات البريطانية في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، هذا الادعاء لا يستند إلى حقائق تاريخية دقيقة، صحيح أن وثيقة الاستقلال أبقت على بعض القوات البريطانية في مصر، لكن ذلك لا ينفي الاستقلال.
حتى لو كانت السيادة المصرية “ناقصة” في بعض الجوانب، فإن نقص السيادة لا يلغيها بالكامل، ووجود قواعد عسكرية أجنبية محدودة في بعض المناطق لا ينفي استقلال الدولة.
كما هو الحال مع القواعد العسكرية الأمريكية في اليابان وأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، والتي لم تلغِ سيادة هذه الدول، وإذا كان البعض يرى أن بريطانيا ضغطت على مصر لقبول وجود قواعدها، فإن الولايات المتحدة أيضًا فرضت وجودها العسكري على بعض الدول خلال فترة الحرب الباردة.
من النتائج الهامة لإعلان استقلال مصر عام 1922، التحاق الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات بالكلية الحربية في زمن الاستقلال المصري، وهو الأمر الذي كان متعذرًا على أبناء الطبقات الوسطى قبل الاستقلال، كما شاركت مصر في تأسيس الأمم المتحدة والجامعة العربية عام 1945 كدولة مستقلة ذات سيادة.
تعود الشرارة الأولى لإعلان الاستقلال إلى ديسمبر 1921، عندما وجه الزعيم سعد زغلول نداءه الشهير إلى الأمة المصرية “فلنثق إذن بقلوب كلها اطمئنان ونفوس ملؤها استبشار وشعارنا الاستقلال التام أو الموت الزؤام”. نتيجة لهذا النداء، تم اعتقال سعد زغلول وخمسة من القادة السياسيين المصريين في 23 ديسمبر 1921 ونفيهم إلى عدن ثم إلى جزر سيشل.
استمرت الجهود نحو الاستقلال حتى نجح رئيس وزراء مصر عبد الخالق ثروت في تحويل مفاوضاته مع الجنرال اللينبي إلى إعلان 28 فبراير 1922، الذي تضمن مبدأ إلغاء الحماية على مصر والاعتراف بها كدولة مستقلة وإنشاء برلمان يضم غرفتي النواب والشيوخ وإعادة وزارة الخارجية تحت السيطرة المصرية.
في 15 مارس 1922، وجه السلطان فؤاد رسالة إلى الشعب المصري قال فيها “لقد من الله علينا بأن جعل الله استقلال البلاد على يدنا، وإنا لنبتهل إلى المولى عز وجل بأخلص الشكر، وأجمل الحمد على ذلك.
ونعلن على ملأ العالم أن مصر منذ اليوم دولة تتمتع بالسيادة والاستقلال، ونتخذ لأنفسنا لقب صاحب الجلالة ملك مصر ليكون لبلادنا ما يتفق مع استقلالها من مظاهر الشخصية الدولية، وأسباب العزة القومية وإنا ندعو المولى القدير أن يجعل هذا اليوم فاتحة عصر سعيد يعيد لمصر ذكرى ماضيها الجميل”.
من أهم مظاهر هذا الاستقلال كان الاستقلال الاقتصادي، الذي اتخذ شكل “المقاطعة” التي حققت للمصريين متطلباتهم ومكنتهم من الاستغناء عن الواردات الخارجية، كما فتح استقلال مصر الباب أمام أهم دستور عرفته مصر في عصرها الحديث، وهو دستور 1923، الذي قامت على أساسه أول انتخابات حرة في أكتوبر 1923، أسفرت عن تشكيل أول برلمان شعبي في يناير 1924.