قبل أيام من حلول عيد الأضحى المبارك وذكرى 30 يونيو، كتبت في بوابة الحرية مقالا أدعو فيه لضرورة وجود تحرك جاد وعاجل ومختلف شكلا ومضمونا في ملف سجناء الرأي، سواء على مستوى وتيرة قرارات العفو وإخلاء السبيل، أو على مستوى المعايير التي تحكم تلك العملية، أو حتى على مستوى مناقشة النصوص التشريعية التي تسمح بإستمرار الحبس الإحتياطى كسلاح مسلط ضد المعارضين وأصحاب الرأي وقابل لإستخدامه في إهدار أعمار لسنوات، وجرى بعدها إصدار قرار إخلاء سبيل عن دفعة جديدة من السجناء لكنها لم تكن تختلف عن سابقاتها على مدار شهور مضت، كما لم تشهد بعدها أي تحركات جادة في هذا الملف، حتى صدر الحكم الصادم ضد الباحث باتريك زكى منتصف الأسبوع الماضى، ليثير موجة واسعة من الدهشة والغضب من أطراف سياسية وحقوقية ومجتمعية متعددة، قبل أن يتم تدارك ذلك الخطأ في اليوم التالى مباشرة بتحرك سريع ومحمود عبر قرار عفو لستة مواطنين كان من بينهم باتريك لكنه شمل أيضا محمد الباقر بعد أن قضى 3 سنوات و10 شهور من عمره في السجن صدر خلالهم ضده حكم مماثل للحكم الذى كان قد صدر ضد باتريك، والمماثل لأحكام أخرى في قضايا شبيهة ضد آخرين كلها صادرة عن محاكم أمن الدولة العليا طوارئ التي لا تزال قائمة وتنظر في قضايا معروضة أمامها وتصدر أحكام فيها رغم وقف العمل بحالة الطوارئ منذ ما يزيد على عام ونصف، وعلى إتهامات صار إستخدامها وتكرارها عبثا يفترض أن يتوقف توجيه مثلها لأصحاب الرأي أو المعارضين مثل نشر أخبار كاذبة أو مشاركة جماعة إرهابية.
(1)
قد يكون الحكم الذى صدر ضد باتريك زكى مفاجئا سواء في طبيعته أو توقيته، لكن دلالاته هي التي تحتاج نقاشا وحوارا جادا وواضحا وصريحا، لكن المؤكد أن ردود الفعل عليه لا تحمل أي قدر من المفاجأة، لأنها لم تكن فقط ردود فعل إزاء الحكم في ذاته، وإنما إزاء الدلالات المحتملة ومدى جدية المسار الحالي.
لا يمكن لأحد أن ينكر أن هناك تغيرا في طريقة وحجم تفاعل وتعامل السلطة وأجهزتها مع القوى السياسية والمعارضين والآراء المختلفة والأحداث التي تطرأ وتستجد على الساحة السياسية على مدار الشهور الماضية، لكنه تغير يبدو جزئيا ونسبيا وليس جوهريا، ويتخوف البعض من كونه تغير تكتيكى مؤقت وليس تعبير عن وضع جديد مستقر ومستمر، لكن في الوقت ذاته، فلا يمكن تصور أن ذلك يعكس تغيرا جذريا في طريقة تفكير السلطة أو بعض أطرافها، أو تحولا مفاجئا إلى الديمقراطية والحريات بمعناها الواسع والشامل.
لم يتوقف الحبس على مدار الشهور الماضية وإن قلت وتيرته أو بشكل أكثر وضوحا الوزن والتأثير السياسى لمن يتم القبض عليهم، وإن كان ذلك لا ينفى أن حالات مماثلة قد جرت أيضا، وإذا كان قد جرى الإفراج عن ما يزيد عن 1400 تقريبا على مدار الفترة منذ الدعوة للحوار الوطنى وحتى الآن، فإنه جرى القبض خلال نفس الفترة في أقل تقدير على مئات غيرهم بل وأحيانا من بعض من أفرج عنهم، سواء على خلفية كتابات على مواقع التواصل الإجتماعى أو على خلفية دعوات بائسة مثل 11 نوفمبر الماضى، وفضلا عن ذلك فقد جرى القبض خلال الأيام السابقة على الجلسة الإفتتاحية للحوار الوطنى على أعضاء بأحزاب سياسية وغيرهم، وصحيح أن بعض – وليس كل – تلك الوقائع كان يجرى معالجتها بشكل أو بآخر، لكن الدلالة هنا واضحة أن القناعة بأن وقف مسار تهديد حرية المواطنين بالقبض والحبس وبغض النظر عن شكلها وتكييفها القانوني، والقناعة بأن ذلك ليس محلا لتجاذبات السياسة والعلاقة مع القوى السياسية وأنه ليس سلاحا في يد السلطة وأجهزتها، ليست قناعة مستقرة وواضحة، وهو ما يخلق تأزما حقيقيا في الكثير من المواقف، ويمثل قلقا طبيعيا لدى أي ممن يراهن على مسار انفتاح سياسى خلال المرحلة المقبلة.
من هنا فإن ردود الفعل التي جاءت غاضبة ومحتقنة وبلورت في بعضها تعليق أو تجميد أو انسحاب لبعض المشاركين والفاعلين في الحوار الوطنى، تبدو متوقعة، لأنها في جانب كبير منها لم تكن فقط مرتبطة بصدور الحكم ضد باتريك زكى، وإنما فيما وراء ذلك من دلالات وإشارات، حدها الأدنى أن هناك رسالة بأن سلاح الحبس لا يزال سيفا مسلطا يمكن إستخدامه، خاصة في ظل تزامن ذلك مع إستمرار تراجع وبطء وتيرة ملف الإفراج عن سجناء الرأي وعدم أخذ خطوات جادة وواسعة فيه بما يقربنا من نقطة تصفية ذلك الملف بشكل حقيقى، وكذلك بالتزامن مع عدم وجود نتائج ومخرجات حقيقية حتى الآن من الحوار الوطنى وعدم البدء حتى في مناقشة بعض القضايا المحورية المطروحة فيه فضلا عن آليات وشكل النقاش فيما جرى به من جلسات.
(2)
في أحد مداخلاته بمؤتمر الشباب الذى انعقد مؤخرا بالإسكندرية، علق الرئيس عبد الفتاح السيسى على بعض الكلمات بأن البعض له مطالب تمثل الحد الأقصى، كما كان له تعليق آخر يخص قضية الإفراجات عن السجناء ترك بعض الانطباعات السلبية، لكن المطروح الآن وهنا لا علاقة له بالحد الأقصى من الطموح بأن نرى مصر دولة مدنية ديمقراطية حديثة بكل معانى المدنية والديمقراطية والحداثة، دولة مؤسسات قوية مستقرة مستقلة، تحترم وتلتزم كل أطرافها تماما وكليا بالدستور والقانون، ومجتمعا قويا فاعلا قادرا على المحاسبة والمراقبة والتعبير، وتشهد مجالا سياسيا حرا ومفتوحا وحقيقيا وتنافسيا، وتوفر سبل العيش الكريم وفرص العمل اللائقة والرعاية الصحية الملائمة والتعليم الجيد المناسب، وغيرها من الأحلام والطموحات المشروعة، التي دفع هذا الشعب أثمانا كبيرة وكثيرة في حقب وعهود متعددة لينال الحد الأدنى منها، ونعرف وندرك أن هذا مسار طويل متصل لكننا نريد أن نضع أقدامنا على أوله، فقط هذا هو المطلوب الآن، وفى ظل أوضاع اقتصادية بالغة الصعوبة، وحلولها أيضا تبدو بالغة الصعوبة، فإن الحلول السياسية هنا تصبح أقل كلفة وأكثر وجوبا، خاصة في ظل مجال سياسى أغلق تماما على مدار السنوات السابقة وساهم ذلك الإغلاق فيما وصلنا له جميعا، وفاتحة كتاب المسار السياسى هو تصفية أهم ما نتج عن السنوات السابقة بشكل جاد وعاجل وحقيقى وهو ملف سجناء الرأي.
هذا المطلب الواجب والضرورى والمطروح طوال الوقت، ومنذ اللحظة الأولى للدعوة للحوار الوطنى، وأثناء التحضير له، ومع انعقاده، وحتى الآن، لم يعد يحتمل تأخيرا أو تباطؤا أو أن يكون محلا لظروف وملابسات، والحديث هنا مجددا ليس عمن تورطوا في عنف أو دم، وليس عمن أجرموا حقا بحكم القانون، ممن قد ترى السلطة وأجهزتها وفقا لتعبير الرئيس أن ما جرى معهم كان إنقاذا للوطن، فمطالب الإفراج عن سجناء الرأي لا تمتد لتشمل هؤلاء، مع التمييز الواجب بين من أجرم حقا ومن شملته قضايا أو أحكام في ظل أوضاع استثنائية في حينها، وإنما الحديث بالأساس عن كثيرين لم تثبت ضدهم تهمة واحدة ولا يزالوا قيد الحبس الاحتياطي لشهور أو سنوات، وعن آخرين جرى تكييف تحريات أمنية أو إتهامات قانونية ضدهم لتصدر ضدهم أحكام بناءا على ذلك والأساس الحقيقى لوجودهم في السجون هو مواقفهم أو آرائهم السياسية سواء كانت محل إتفاقنا أو خلافنا، فضلا عن غيرهم ممن جرى القبض عليهم في حملات موسعة في أحداث مختلفة بينما لا ناقة لهم ولا جمل، وهم بالمناسبة ومن تجربة معايشة فعلية كثيرين حتى لو لم يجرى حصر حقيقى للكثير من أسمائهم.
(3)
قد تكون مرت لحظة ذروة الأزمة الخاصة بالحكم ضد باتريك زكى ومعالجتها السريعة الصحيحة بقرار العفو الرئاسي، لكن ردود الفعل تكشف أن الوضع أعقد وأصعب من معالجة ذلك الموقف في ذاته، لأنها تمتد لتراكم أبعد وأوسع من ذلك الموقف ورهانات وآمال قائمة على مدار السنة وبضعة شهور الماضية.
وفى تقديرى الذى لا يزال كما هو في هذه النقطة، فإنه لا أحد سوف يستفيد من فشل الحوار الوطنى، حتى وإن لم يكن على مستوى الطموحات التي لا زلت أرى أن بعضها كان منذ اللحظة الأولى مبالغا، ولا الرهانات التي لا زلت أرى أن بعضها كان منذ البداية في غير محله، وبالتالي إذا كان هناك من لا يزال يرى من السلطة والمعارضة أن الحوار الوطنى فرصة لا بد من استغلالها لصالح الجميع وليس لصالح طرف على حساب طرف، فإن هذه لحظة تعديل مسار واجب التفكير فيها في تقديرى، تبدأ من آلية جديدة لملف الإفراج عن سجناء الرأي، خطوتها الأولى هو تصفية ما تبقى من قوائم سبق تقديمها ولم يتم الإعتراض عليها من جانب السلطة أو الأجهزة المعنية، وبأسرع وقت ممكن، ووجود آلية واضحة زمنيا لتنفيذ ذلك، مثل أن تكون هناك دفعات أسبوعية، مع تفعيل دور جلسات تجديد النيابة وجلسات غرف المشورة في إتخاذ قرارات إخلاء السبيل لمن لم تثبت ضدهم أي تهم من الموجهة لهم. أما خطوتها الثانية التي صار واجبا التفكير فيها وطرحها الآن، هو إعادة تشكيل لجنة العفو القائمة حاليا، التي بذلت جهدا مشكورا ومحترما، لكن الجميع يعلم أنها ليست جهة صاحبة قرار، وإذا كنا سوف ننتقل لمرحلة جديدة في هذا الملف، فإن الواجب هو إعادة تشكيلها مع تحديد دورها وصلاحياتها، وتوسيع ذلك التشكيل ليشمل بالإضافة إلى الوجوه السياسية والحقوقية والقانونية ممثلين عن الجهات والهيئات الرسمية ذات الصلة بإتخاذ قرارات العفو أو إخلاء السبيل، لتكون آلية واضحة صاحبة قرار أو في الحد الأدنى توصية أقرب للإلزام.
وحتى يتم ذلك إذا كان سوف يتم، فإن جميع الأطراف مسئولة مسئولية مشتركة وتضامنية عن تحقيق تقدم واضح وجاد في ذلك الملف، رئاسة الجمهورية بإعتبارها بالأساس من أعادت طرح وفتح ذلك الملف، والجهات الأمنية، والجهات الراعية للحوار، ومجلس أمناء الحوار الوطنى، والأحزاب والقوى والشخصيات المشاركة فيه.
وبوضوح شديد، فإذا كان ملف سجناء الرأي كان مطروحا كضمانة لبدء الحوار والمشاركة فيه، ولم يتحقق المستهدف بالكامل، فإن بقاء الوضع على ما هو عليه الآن وعدم تقدمه وتطوره بشكل جاد، سيكون ضمانة لفشل الحوار وضرب ما تبقى له من مصداقية أيا كانت نتائجه وتوصياته، ومجددا فإنه ليس سرا ولا خافيا على أحد أن كثير من المشاركين في الحوار الوطنى شاركوا على إعتبار أن هناك تقدم تحقق في ذلك الملف وعلى أمل أن تسهم مشاركتهم في تطور ذلك واستمراره لإنهاء الملف تماما.
(4)
قد ترى السلطة، وهى محقة، أن ملف سجناء الرأي ليس الملف الوحيد الذى يجب أن يكون مطروحا طوال الوقت وأن هناك ملفات أخرى عديدة غيره، وهو أمر صحيح، لكن الإنطلاق إلى ملفات أخرى ونقاشها بعقل وقلب مفتوح، وطرح كل طرف لما لديه إتفاقا وخلافا، وقبولا ورفضا، سوف يكون أكثر فعالية ويأخذ مساحات أوسع وأرحب وأكثر جدية، إذا أغلق ملف سجناء الرأي وصارت له آلية منتظمة واضحة مستقرة مستمرة ليست عرضة لتجاذبات وخلافات وتفاوضات السياسة.
وقد ترى السلطة أيضا أن بعض أو كثير من أطراف المعارضة لم يلتزم بالتفاعل الإيجابى واتخذ في بعض الأحيان مواقف متشددة أو تصريحات غير إيجابية أو لم تقدم حلولا وبدائل مناسبة بالذات في القضايا التي تشغل بال المواطن وتمثل أزمات حقيقية للدولة والسلطة والمجتمع معا، وأن المواقف من الحوار بالمشاركة أو عدم المشاركة ثم بالاستمرار أو عدم الاستمرار صار أمرا مكررا وغير مقبولا.
وقد ترى بعض أطراف المعارضة أن الحوار استنفذ أغراضه ولم يثبت جديته ولم ينتج شيئا ملموسا منذ بدايته حتى على مستوى ملف سجناء الرأي، وبالتالي فعدم الإستمرار فيه هو الموقف الأصح الآن.
وقد يرى كلا من السلطة والمعارضة معا أن الانتخابات الرئاسية على الأبواب أيا كان توقيتها، وأن الأولى الآن هو الانشغال بها وليس بالحوار الوطنى وتفاعلاته وما قد ينتجه.
وبغض النظر عن كل ذلك، وكل له ما له وعليه وما عليه، يؤخذ منه ويرد، فإننى أكرر قناعتى الشخصية الواضحة، أن الحوار الوطنى في هذا التوقيت والظرف فرصة للجميع لا ينبغي إهدارها، دون أن يتصور أحد أنه سوف يستفيد منها وحده أو على حساب الأطراف الأخرى، وأن الرهان عليه لا بد أن يكون في حدوده وليس أبعد من المتوقع والمتصور منه، وأن الدعوة له أو الانخراط فيه لا يعنى تبدل المواقع وأن السلطة صارت تتبنى رأى المعارضة ولا أن المعارضة صارت مؤيدة للسلطة، كما أنه ليس غاية المنى ولا نقطة النهاية، وإنما محطة أولى سيكتب نجاحها النسبى بقدر ما يمكن بناءه عليه فيما هو قادم .. وأن إهدار هذه الفرصة سواء بالتعنت أو حتى التباطؤ في ملفات مثل سجناء الرأي، أو استمرار أداء الحوار كما هو خلال الفترة السابقة بدون جدول واضح للقضايا وأجندة محددة لما يتم مناقشته وآليات أكثر جدية للنقاش، مع ضرورة التفكير جديا في ترحيل وتأجيل الكثير من العناوين التي كانت مطروحة فيه لجولات لاحقة والتركيز الآن على ما هو أساسى وجوهرى وضرورى.
بوضوح فإن المشاركة في هذا الحوار لا بد أن تعنى بالضرورة نتائج متحققة حدها الأدنى هو ملف سجناء الرأي، والذى من دونه لن يكون للحوار كله مصداقية أو قيمة أيا كانت نتائجه وأيا كان من شاركوا فيه، وهو الباب الذىقد يفتح أبوابا أخرى غيره سواء على مستوى النتائج المتوقعة من الحوار، أو المحطات التالية للحوار نفسه.