على غرار المذاهب الأربعة واختلاف تفاسيرها والمباح فيها والمُحَرَم عقدت حركة حماس اتفاقاً مبهم التفاصيل مع الجانب الإسرائيلي برعاية وضمانات لا نعلم عن خفاياها شيئاً حتى هذه اللحظة، لكن ولأن الأيام كاشفة فقد بدأ سكان غزة يفيقون من وقع الصدمة بعد أن كانت آمالهم معلقة فقط بوقف الحرب للحفاظ على ما تبقى من أرواح، ليبدأوا بالتساؤل عن جدوى رفض حركة حماس للمبادرة التي تم تقديمها قبل حوالي سبعة أشهر والتي كانت بالمجمل تحمل نفس تفاصيل الاتفاق الذي تم توقيعه الآن.
التساؤلات التي بدأت تدور في الأذهان الآن تتعلق بالكثير من التفاصيل الدقيقة مثل معبر رفح الذي خرج عن سيطرة حركة حماس بناء على تصريحات نتنياهو الأخيرة، وشكل الحكم في غزة والذي أيضاً على ما يبدو أنه خرج عن سيطرة حماس حتى وإن كانت الحركة تحاول أن تمثل بإعادة انتشار عناصرها داخل شوارع القطاع بعد أن أخرجوا أزيائهم العسكرية والشرطية التي أصابتها الرطوبة والعفن بسبب تخزينها لمدة عام وثلاثة أشهر لمثل هذا اليوم، إلى جانب الاتفاق على إعادة الإعمار والذي بمجمله خرج من يد الحركة، فإسرائيل مصممة على أنها لن تسمح لأي طرف فلسطيني بأن يتحكم في ملف إعادة الإعمار حتى من جانب السلطة الفلسطينية التي تتعامل معها إسرائيل على أنها كيان هش لا يستطيع حتى حماية نفسه بعد أن ساهمت في إضعافها على مدار سنوات.
وللغوص أكثر في التفاصيل فإن هناك تساؤل واحد يرتسم على وجوه أهل غزة وهو متعلق بمدى جدوى استمرار الحرب طوال هذه المدة دون أي إنجاز يذكر طالما أن الحركة في النهاية تنازلت عن كل شيء كانت تطالب به في البداية، وكيف قامت حماس ببيع الدم الفلسطيني في مزاد علني نصبته الجزيرة عبر شاشتها منذ بداية الحرب وكان المراهنون من القيادات التي تعيش في الخارج والمحللين السياسيين الذين لا يفقهون إلا في شؤون الطبخ وتفحيم النرجيلة في المقاهي.
وما هي الخسارة التي مني بها الشعب الفلسطيني على مدار كل تلك الأشهر التي كانت حماس تفاوض وترفض فيها كافة المبادرات بدعوى أنها لا تلبي آمال وطموحات الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وللتوضيح أكثر فإن الآلاف من المدنيين والأطفال والنساء قتلوا دون ثمن واضح حتى الآن خلال كل تلك الأشهر التي كان من الممكن أن يتم وقف الحرب خلالها بموافقة الحركة على الهدنة التي ربما كانت أفضل حالاً من تلك التي تم تطبيقها.
وإن كان الأسرى داخل السجون الإسرائيلية هم الشغل الشاغل لحركة حماس خلال تلك الفترة التي كان سكان القطاع فيها يموتون جوعاً وبرداً وقصفاً، فإنه ومع بدء المرحلة الأولى لتطبيق الاتفاق أفرجت إسرائيل عن حوالي 100 من الأسرى والأسيرات فجر الإثنين الماضي، وبدأت فجر الثلاثاء حملة اعتقالات واسعة طالت نشطاء ومواطنين في أرجاء الأراضي الفلسطينية كانت نتيجتها العشرات من الأسرى الجدد.
وإن كانت إسرائيل قد خسرت هذه الحرب من منظور حماس وقيادتها فمن الذي كسب حقاً؟، أهل غزة الذين فقدوا أبنائهم وعائلاتهم ومنازلهم وطموحاتهم وآمالهم!! وما هي مقاييس الخسارة والانتصار من وجهة نظر هؤلاء؟ أم أن حديث حسين فياض قائد الجناح المسلح للحركة في بيت حانون الذي قال في آخر ظهور له “إن العدو لم ينل إلا من الحجارة وبعض الأشلاء والدماء”، كان واقعاً يدل على نظرة مثل هؤلاء لأبناء قطاع غزة حتى أصبح يستدل على أكثر من ستين ألف روح أزهقت بكلمة “بعض” في استرخاص واضح للدم الفلسطيني.
إن حماس بعناصرها وقيادتها لا تملك إجابة واضحة عن أي تساؤل في جوف طفل يقطن خيمة لا تقي برد الشتاء في غزة، ومع ذلك فإن الحركة مصممة على أن الإنسان يمكن أن ينتصر بعناده حتى وإن أخفى زيه العسكري عاماً ونصف وأخفى نفسه بين آلاف المدنيين ومع أول انسحاب للطائرات الإسرائيلية خرجت الأزياء من مخابئها حتى تلك السيارات التي لطالما كانت عنواناً للقمع في نظر سكان القطاع ووجودها في أي مكان يدل على أن هناك ضحية جديدة من السكان.
أنا على يقين بأن الأمور باتت مبهمة الآن أكثر من وقت الحرب، فقبل عقد اتفاق الهدنة كانت خيارات السكان تتأرجح بين الموت أو النجاة، لكن ومع عقد الاتفاق ووقف الحرب حتى ولو بشكل جزئي أصبحت هواجس الناس تتعلق بما سيحدث خلال الأيام القادمة مع هذا الاتفاق المبهم الذي يحتاج إلى كتاب تفسير ملحق ببنود الاتفاق ربما يساعد على فهم ما حدث داخل الغرف المغلقة ويفضح أسرار موافقة حماس على مثل هذا الاتفاق والذي كان من الممكن الموافقة عليه مسبقاً والحفاظ على دماء الآلاف من المدنيين الذين كانوا يخططون لأنفسهم بأن يعيشوا حياة أفضل قبل أن تفرض حماس عليهم الموت دون أي اعتبار لآرائهم أو حتى مشاعرهم.