ما الأغراض التي تُرجى من التعليم العالي في أي أمة؟ وما الذي نطلبه منه وله؟
قد يخيل لنا أن الأمور واضحة في أذهان الجميع، لكنها ليست كذلك حتى في أذهان بعض المتخصصين.
أبسط هذه الصور يتجلى فيما يدور في وجدان أولياء الأمور والتلاميذ على الأغلب؛ إذ يرون خريج التعليم العالي ذا مكانة اجتماعية أفضل، وأن شهادته تؤهله لهذه المكانة.
كما يرون التعليم العالي أرقى من أنواع التعليم الأخرى، بل إن هناك تقسيماً نفسياً داخله، حيث يُعتبر خريج الجامعة أرقى من خريج المعهد، وخريج المعهد أرقى من خريج التعليم الفني، وبلا شك أرقى من شهادة الثانوية العامة.
كذلك ترى هذه الأسر أن الدولة عبر تاريخها الحديث تشترط شهادة التعليم العالي للتعيين في وظائفها الهامة، وأنه يؤهل طالبه لشغل الوظائف، خصوصاً إذا كانت شهادات تعليم عالٍ متميزة، وهو ما تمثله كليات القمة كما سماها المجتمع، أو أن الشهادة في حد ذاتها جواز مرور اجتماعي بغض النظر عن المعرفة أو المهارات التي من الواجب اكتسابها من هذا التعليم.
ولا أستطيع أن أنكر هذه الصورة في أذهان أصحابها؛ لأنها مستمدة من الواقع الذي يعيشون فيه وتجاربهم المتكررة خلاله.
فئة أخرى ترى الأمر من زاوية المصلحة الفئوية التي تمثلها النقابات. فبعض النقابات تسعى إلى إغلاق الأبواب أمام التوسع في كليات تخصصها، ليس من منظور الجودة المنتظرة أو صعوبة تكلفة إنشائها، بل من منظور أضيق من ذلك، وهو حماية أعضائها أو غيرهم من المهنيين الموجودين الآن.
أي أن التعليم العالي عليه أن يتوافق مع حماية أصحاب المهنة، سواء كانوا أطباء أو مهندسين أو تجاريين أو غيرهم من أصحاب المهن. ويغلق الباب أمام المستقبل لحماية الواقع الحاضر.
وكأن التعليم يأتي كرد فعل للواقع المهني أو احتياجات السوق الحالي، وهو تصور قاصر وضيق الأفق؛ لأن التعليم العالي له منافع أخرى متعددة، تتجمع في كونه قاطرة التنمية في أي مجتمع.
فهو تعليم لا يأتي كرد فعل لحالة سوق العمل، أو نسب البطالة، أو حال مهنة من المهن في لحظة زمنية بعينها، بل هو هذا النوع من التعليم الذي يرسم ملامح المستقبل، ويُنشئ البشر القادرين على صنع التنمية وليس ملء فراغ الاحتياجات.
إنه يبني الإنسان صانع الفرصة ومحققها وليس فقط المستفيد منها.
قليل من المثقفين يرون التعليم العالي من منظور مختلف، وهنا يأتي دورهم في طرح السؤال وتكرار الحديث عن إجابته في المجتمع والإعلام وبين أعضاء هيئات التدريس، الذين ترسخت في وجدان كثير منهم عبر الزمن فكرة أداء الواجب كالموظف العام، وتقديم الخدمة التعليمية كما هو في المقرر المعتمد من الوزارة أو المجلس الأعلى للجامعات.
يأتي دور التنوير في طرح السؤال استجابة لما يحدث في الجامعات ومؤسسات التعليم العالي في العالم كله: هل نحن مقدمو خدمة تعليمية أم بناة حداثة وصانعو حضارة؟
تحتاج كل الجامعات إلى “التكاثر” و”الانتشار” و”التطور” في ذات الوقت، كما أنها تحتاج إلى معرفة أسباب التغير أو أسباب التمسك بالتقاليد. ولكي يتسنى لها القيام بذلك، عليها أن تتشكك في ما تم اكتسابه وتختبر أيضاً أنماط التفكير المختلفة الموجودة في المجتمع.
كما أن على الجامعة أن تخاطر بتقديم كل ما هو غير متوقع للمجتمعات التي تستسهل بقاء الأمر كما هو عليه، بل وتحارب التجديد والتغيير حفاظاً على الواقع الذي تم التعود عليه حتى وإن كان محل انتقاد.
وتجسد الجامعات عمليات التغيير؛ إذ إن دورها في المجتمع يتمثل في ابتكار الجديد واستيعابه، ونقل وصنع المعرفة، وتحقيق التناغم والتكيف بين المعرفة وكيفية الحصول عليها واستخدامها في وقتنا الحاضر، ومتطلبات المستقبل.
وبناءً على هذا، فإن دور المؤسسات الأكاديمية يتأكد في البحث والتدريس وتقديم العون لكل الأنشطة على أساس قدرتها على المعارضة (البعد الانتقادي) والموافقة (الحاجة إلى الالتزام).
وظائف الجامعة
مرصد الماجنا كارتا يستخدم نموذجاً لفهم كيفية تمثيل الإصلاح توازناً في مجال التعليم العالي، إذ يفترض أنه في كل مكان تحاول الجامعة تلبية أربعة أهداف، ألا وهي: الرفاهة، والنظام، والمعنى، والحقيقة.
ومن ثم، تمثل هذه الأهداف مجتمعة سبب تأسيس ووجود الجامعات.
فالجامعة تركز على رفاهة المجتمع، إما بإعداد طلابها للتكامل البناء داخل سوق العمل، وذلك من خلال اكتساب المعرفة والمهارات التي تشكل أداة لإحراز التقدم وتحقيق التطور، وإما بتنمية مجال البحث والابتكار لديها لتعزيز القوة الاقتصادية لأمة بعينها.
ويكمن الهدف من وراء ذلك في تلبية الاحتياجات الاجتماعية بشكل فعال واقتصادي.
ولذلك، فإن الهدف المنفعي للاستثمارات التي توجهها الحكومات والأطراف المعنية المهتمة بتنظيم الكيان المادي لمجتمعاتها إلى جامعاتها يصبح مبرراً؛ فهناك عائد محسوس يمكن قياسه على الأفراد وعلى المجتمع.
أما بخصوص النظام الاجتماعي، فإن الجامعة تساعد المجتمع ليكون “مجتمعاً متناسقاً” تتبادل فيه المجموعات المختلفة المراجع، وتجعل من العلم والمعرفة والمهارات الفنية أمراً ملائماً ومناسباً.
وهذا يتطلب وضع المهارات ومجالات المعرفة المتصلة بالتكامل المدني في سياق التدريس وتكييفها مع الاحتياجات الاجتماعية الحالية.
وكذلك يحدد التعليم العالي “مؤهلات” الأشخاص، وتصبح شهادات التعليم العالي والدراسات العليا بأنواعها المختلفة جواز مرور هؤلاء إلى المناصب المحترمة ذات الرواتب المناسبة الموجودة على درجات السلم الاجتماعي المختلفة، فالجامعات هي أهم مصدر لتنظيم المؤهلات العليا.
وتتناول الجامعة في قضية المعنى مسلمات الحياة كما يعرفها المجتمع، وتبحث في وجهات النظر العالمية المختلفة، القديمة والجديدة. كما تعيد النظر في المراجع الفكرية المستقرة والمقبولة، وتعيد تنظيم البيانات وفقاً للمعايير الجديدة والمختلفة، سواء كانت فكرية أو أخلاقية أو جمالية.
ويكمن إثراء المعنى في الإلمام الشامل والكامل بهذه المعارف ووجهات النظر المختلفة، والتشكك في المسلمات، وإعادة تنظيم العالم كما نعرفه في ضوء ذلك. ويترتب على هذا قدرة الجامعة على الإشارة إلى الإصلاحات الممكنة في المجتمع، وهو ما يعتبر الأساس لأي نقلة حضارية تقوم بها الأمم.
وعند تناول الجامعة لمسألة البحث عن الحقيقة، فإنها تستكشف المجهول بوصفه النظام الطبيعي الذي يشكل جزءاً منها.
ولا يكمن الهدف في مجرد هدم أسوار الجهل، بل في التساؤل العميق عن مدى فهم الإنسان للكون المحيط به.
وتلتقي مراحل هذا الجهد مع أسلوب الاستدلال العلمي الواجب أن تنتهجه الجامعات في دراسة العلوم المختلفة، والذي يشمل التشكك والتخيل والاستيعاب.
وهذه عملية تشوبها المخاطر أحياناً، حيث قد تؤدي إلى الخطأ أو الفشل، وهي أمور يقبلها العلم طالما تتم بمنهج الاستدلال العلمي والبرهان. ولكن، يبقى البحث عن الحقيقة مدخلاً أساسياً لوظيفة الجامعة.
وتعد عملية التحديث هي الوظيفة المنوطة بالجامعات في المجتمعات النامية، كما تم إسنادها لها في كثير من الاقتصادات المتقدمة. ويشمل هذا الهدف الوظائف الأربع للجامعة كما وردت في هذه المقالة. وحتى يتسنى لنا تعريف الحداثة وفهم مضامينها المؤدية إلى التغير الاجتماعي والتطور العلمي، ينبغي للجامعات، بوصفها من المؤسسات الضرورية للأمة ولبنة التطور الثقافي للمنطقة، أن تقوم بمسح البيئة التي تنشأ فيها، وأن تدرك تعقيدات التغيير المحتملة (وهذا يعني الحرية الأكاديمية). ويجب على الجامعات أن تضع رؤيتها تجاه التزاماتها نحو هذا التحول، وأن تحدد كيفية استخدام أصولها بأفضل السبل الممكنة (وهذا يعني الاستقلالية المؤسسية).
وعملياً، يعني ما تقدم تحديد الاستراتيجيات متوسطة الأمد التي تؤدي بها إلى وضع سياسات مؤسسية يمكن اختبارها وقياسها والتثبت منها (وهذا يفرض توافر المساءلة).