ابتعدت عن الصحافة فترة ليست قليلة رغم عشقي للكتابة وهذه المهنة بسبب حادث تعرضت له والكثير من زملائي يعرف تفاصيل ذلك الحادث، وبعد أن أتم الله شفائي في رحلة علاج تخطت عامان ونصف والفرصة كادت تسمح بالعودة للعمل كانت أول فرصة تدق بابي العمل بإحدى القنوات التليفزيونية العريقة ورغم الترابط القوي بين العمل بالصحافة والقنوات إلا أن الصحافة لها عشق خاص وكنت أتمنى أن أجد فرصة تسمح لي من جديد ممارسة ما أحب، فالعمل الصحافي ليس مجرد مهنة من أجل العمل بل عمل ممتع يصل إلى حد الإدمان مهما ابتعدت عن تلك المهنة فستناديك مرارا وتكرارا وتجذبك ناحيتها من جديد ورغم أنها مهنة البحث عن المتاعب إلا أن داخل متاعبها لذة لا يعلم متعتها سوى من امتهنها عن حب وشغف.
بدأت منذ فترة البحث عن فرصة جديدة للعمل الصحافي وبالفعل ساعدتني إحدى صديقاتي في الحصول على وظيفة بأحد المواقع الإخبارية التي تعمل به ويملكها أحد أعضاء مجلس النواب وبالفعل اتجهت لعمل مقابلة مع رئيس التحرير الذي رحب بي في البداية واتفقنا سويا على موعد البدء وكنا وقتها في فصل الربيع وفي اليوم المحدد فوجئت بإصابتي برمد ربيعي أدى إلى تورم عيناي واحمرارهم إلى حد مؤلم كثيرا فتواصلت حينها مع طبيب العيون الذي أبلغني بضرورة عدم الخروج من المنزل إذا كانت هناك عاصفة ترابية وأيضا تجنب استخدام الموبايل أو اللاب توب فاضطررت لإرسال رسالة اعتذار إلى رئيس تحرير الموقع عن التزامي بموعد بدأ العمل والذي فاجأني برده “ألف سلامة ولكن بداية غير مبشرة”.
اتفقت على موعد أخر للعمل وحدثت أمور كثيرة أفضل عدم الخوض في تفاصيلها والتقيت برئيس التحرير مرة أخرى قبل بدأ العمل بيوم لتقديم الاعتذار وتوقعت منه اعتذاره لي عن عدم توافر فرصة لي للعمل بعد اعتذاري مرتين بسبب ظروف مرضية ولكني فوجئت بترحيبه، رغم أنه قال لي حرفيا “كنت ناوي أعتذرلك بس معرفش ليه غيرت رأيي”.
إلى هنا كانت الأمور تبدو طبيعية إلى أن بدأ يملي عليا تعليمات المكان وفي داخلي يجول إحساس غريب بين عدم رغبتي في العمل بهذا المكان وسط كل التعقيدات وبين رفضي أن أترك عمل قبل البدأ فيه دون إثبات قدراتي وتذكرت حينها كلمته “بداية غير مبشرة بالاعتذار وكنت أريد أن أقول له “فاكر لما قولتلي بداية غير مبشرة أنا اللي عاوزة دلوقتي أقولك هي فعلا غير مبشرة وسط كل هذه التعقيدات” ” لدرجة أنني أبديت تعجبي من بعض الأمور من بينها جملة قالها ” ماعندناش حاجة اسمها ظروف مهما كنتي تعبانة خدي علاج وتعالي والحالة الوحيدة اللي بنعذر الصحفي انه مايجيش هو إنه يكون مات وممكن نعذره!” فكان رده عليّ ” أصل أنا بني أدم معقد وبحب أطلع عقدي عالناس ” ضحكت كثيرا ساخرة ولاحقته بالكلام قائلة رحم الله امريء عرف قدر نفسه فعلا وأنا بحب الانسان المتصالح مع نفسه
ذهبت في اليوم الثاني لاستلام العمل وبدأت من خلال زملائي أتعرف على تعليمات أكثر للمكان والتي أعتقد أنه من الأفضل أن يعلقوا لافتة مكتوب عليها تعقيدات المكان بدلا من تعليمات المكان، ولدي حيرة تطاردني وسؤال يراودني لكل من يعمل بالمكان “انتم مستحملين العبودية دي عشان إيه .. أمال لو بتقبضوا رواتب تستحق كنتم هتستحملوا ايه تاني! يعني ايه شرب الشاي بمواعيد والأكل بمواعيد وساعات العمل ٩ ساعات لمدة ٦ أيام أسبوعيا واذا أنهيت كافة التكليفات لا يحق لك مغادرة مقر العمل،حتى أن شرب المياه ممنوع داخل صالة التحرير لدرجة أن كان لي موعد دواء عبارة عن لاصقة تذوب على اللسان ففوجئت بمسئولة الشيفت تنظر لي نظرة مريبة وتنظر اتجاه كاميرات المراقبة وكأنني أجرمت فما كان مني سوى أن فقدت أعصابي وقولت ” إيه باخد دوا ومن غير مياة مش لبان ولا بونبون ولا ممنوع اخد دوا كمان في صالة التحرير ! لازم اروح البوفيه يعني !! لا ده بجد كده كتير فأجابتني أنا ماقولتش حاجة قولتلها مش محتاجة تقولي نظراتك كفاية رغم علمي أن تلك الفتاة حديثة التخرج مغلوبة على أمرها وكأنها سجينة مسئولة عن سجناء أخرين فما هي إلا عبد المأمور وتنفذ تعليمات! لأتأكد أن المكان بالفعل ماهو إلا مخزن للعبيد أشبه بمخازن الهجرة غير شرعية مع احترامي لكافة زملائي بالمكان ولكن أنتم من ارتضيتم وربما الكثير منهم كان حديثي التخرج وفرحين بحصولهم على فرصة عمل كانوا يحلمون بها ولكن في حقيقة الأمر مقر الموقع شبه سجن ليس فقط سجن بل أن مواعيد العمل والصرامة التي تغلب على المكان كانت تحتم عليه طلب موظفين لأعمال مكتبية وليس صحافيين عملهم خارج المقر وليس بداخله باحثين على المتاعب.
أنا لا أرفض النظام إطلاقا ولكن كل شيء بحدود معقول .. حاولت إنجاز انطباعي رغم وجود تفاصيل كثيرة جدا دفعتني لاتخاذ قرار الرحيل قبل انتهاء موعد “الشيفت” وأيضا الرحيل نهائيا عن هذا السجن !
من شدة غيظي وقتها لجأت للزميل والأخ والصديق الأستاذ عمرو بدر رئيس موقع الحرية كي أفضفض معه وأحكي له هذه التجربة الساخرة ولا داعي لذكر رد فعله وقتها ولكنه بعث بداخلي أمل من جديد عندما أبلغني عن تجهيزه لتجربة صحفية جديدة تحمل شعارا “الوجه الأخر للقصة” هذا الشعار الذي حرك مشاعري وكأنه بالفعل يعبر عما يجول في ذهن قلمي الصحفي ولم يتركني أستاذ عمرو كثيرا للتفكير اذ فاجأني قائلا ” كبري دماغك انتي معانا في الحرية” .. فأي حرية كان يتحدث عنها أستاذ عمرو !! هل يقصد العمل بحرية بعد السجن لمدة يوم في موقع كفيل أن يجعلك تفكر في ترك العمل الصحافي نهائيا إن كانت كل الجرائد والمواقع تشبهه أم ماذا يقصد ؟! ليلحقني سريعا قبل أن أتعمق في التفكير أن الموقع الجديد سيطلق عليه اسم الحرية وشعاره الوجه الأخر للقصة .
التقطت أنفاسي مع ابتسامة عارمة تحمل كثيرا من التفاؤل بعد ترحيب أستاذ عمرو لانضمامي لهذه التجربة العظيمة وأيضا بسبب اسم الحرية الذي أشار لي بحريتي في التعبير عن رأيي والعمل بحرية دون قيود .
بدأت في الانضمام لاجتماعات المؤسسين وتجهيزات الموقع وتبادل الأفكار وتطويرها إلى أن انطلقنا منذ ٣٠ يوما … لم أعتبرها إطلاقا ٣٠ يوما من العمل الصحافي في تجربة جديدة بل اعتبرتها ٣٠ يوما من الحرية حقا .. فوجدت مرونة في التعامل بين الزملاء ومسئولي التحرير وجدت حرية في التعبير عن الرأي وجدت سلاسة في طرح الأفكار وتطويرها .. وجدت تقديرا للظروف الصحية وغيرها وتقديرا معنويا الذي يمثل لي أهمية أكبر بكثير من التقدير المادي .. وجدت تقديرا لموهبتي وقدراتي .. وجدت زملاء بيننا سابق معرفة سطحية وتوطدت العلاقة من أجل رفع اسم الحرية ..وجدت صديقة بمثابة أخت أثبتت لي أن الأصدقاء الحقيقيين ليسوا بكثرة السنين بينهم ..
والأهم وجدت الراحة النفسية وبيئة خصبة للعمل ساعدتني على الإبداع وجعلتني أكتشف نفسي من جديد .. سعيدة بهذه التجربة الصحافية الرائعة ومتفائلة بها جدا .. حقا ثلاثون يوما من الحرية عوضوني عن يوما في السجن