منذ طفولتي، عرفت أن في مصر هناك زعيمين، مبارك في القصر الرئاسي وعادل إمام في السينما، زعيمان انضما لقائمة المسلمات التي لا يختلف عليها كثيرون، فسواء قبلت أن يحكمك حسني مبارك أو رفضت فسيظل هو الرئيس، ومهما أردت ألا تشاهد عادل إمام فسيظل هو الزعيم، وفي أي وقت كان يمكنك مشاهدة صور الإثنان تتنافس معًا في الانتشار والعدد على الجماهيرية الطاغية في شوارع مصر، أحدهما تدعوك صوره لانتخابه والأخر يدعوك أفيشه لملاقاته في السينما.
بل أنني أتذكر تلك المرة التي فكر فيها المصريون في الاستعانة بالزعيم الفني لإصلاح ما أفسده الزعيم السياسي، كانت إشاعة لا أكثر، لكنها مثلت حلم كبير لدى الناس، كان ذلك عندما سمعنا أن الدولة قد اتفقت معه على وضع صورته على العملة المحلية مقابل قيامه بتسديد كافة ديونها، ذلك كفيل بأن يوضح إلى أي مدى كنا نشعر بقوة وسلطة عادل إمام.
عادل “إمام” السلطة والمعارضة
لفترات كثيرة مثّل عادل إمام لي عكس ما هو واقعه إن أردنا قياس الأمور بمنطقية، فواقعيًا، استمر الزعيم رمز محبب للسلطة في مصر -عدا سنة الإخوان-، ويمكنك معرفة ذلك من الخطوط الحمراء التي كانت تتحول للون أفتح قليلًا كرمًا لزعامته، ومن تعدد لقاءاته مع أعلى الجهات السيادية في الدولة وتكريمهم له، وأخيرًا إطلاق اسمه على أحد مشروعات الطرق لتخليد حقبة زعامته الفنية، ولا شك أن عادل إمام استطاع بنجاح أعماله تحقيق امبراطورية أخرى لا تقل شأنًا في ضخامتها عن علاقته بالسلطة، ألا وهي الامبراطورية المادية، ولست هنا بصدد حصر ممتلكات الرجل، لكن بالتأكيد أنه حقق أرباح عظيمة فاقت ما حققه جميع أبناء جيله، مجتمعين حتى ربما، وبالنظر إلى كيف نشأت تلك الامبراطوريات فلا بد أن تلاحظ أن أساسياتها شيدت على مادة فقر الناس ونضالهم في شتى أمور الحياة كمادة دسمة لكسب الجماهيرية، أي أن النضال كان سببًا في سلطة من نوع خاص والفقر كان ربحًا لكنه خاص أيضًا، وهو نموذج متعارف عليه في الأوساط الفنية، فكثيرًا ما رأينا أنه كونك ملياردير صديق للسلطة لا يمنعك من تقديم أعمال تصيح بمناهضة فساد رأس المال وقمع الحريات وما يطلبه الجمهور.
لكن كل ذلك لا يعني أن عادل إمام لا يجب أن يمثل لي شيئًا، بالعكس، فزعامته تلك جعلت من أعماله نصب تذكارية كبرى لا يمكن الهرب منها أو تجاهلها، تشد على يدي إن خفت يومًا من الإدلاء برأي، وتشدني من أذني في فترة من حياتي داعب فيها التطرف الديني مشاعري، أتحدث هنا عن نوعين من الأعمال ناهضت السلطة والتطرف، فواجه هو السلطة، في “اللعب مع الكبار” و”الإرهاب والكباب” و”مسرحية الزعيم” ومن قبلهم “احنا بتوع الأوتوبيس” مثلًا، وهاجم التطرف في “الإرهابي” و”حسن ومرقص” تحديدًا، وفضح السلطة المختلطة بالتطرف في “طيور الظلام”، وبالتأكيد سيضيف القراء أعمالًا أخرى لامست ذات الأوتار إن أرادوا.
لذلك، فمهما كان عادل إمام الذي عاش في قصره مترفعًا، فهناك عادل آخر عاش في ذاكرتي ثائرًا، وهكذا فقد كان له من اسمه نصيب على ما يبدو.
ثورة يناير وثورة الصوابية وثورات أخرى
في أوج الغضب الذي نال من عديد المشاهير بسبب مواقفهم المتقاعسة في تأييد ثورة ٢٥ يناير، وعندما توقعت أن يسقط عادل إمام باعتباره أكبر الرموز التي سيضعها الثوار على المقصلة بسبب تصريحاته القديمة المؤيدة لحسني مبارك والذهاب لأبعد من ذلك في تأييده لتوريث الحكم لنجل مبارك “جمال”، وبعد كل شيء أيضًا فقد شعرت بتعهد ضمني بينه وبين مبارك أن يسيرا في الزعامة معًا، وقد سقط مبارك لكن عادل إمام لم يسقط، بل أنه لم يتزحزح عن كرسي زعامته، والأدهى أنه قدم بعد ذلك أدوار ثورية مثل الأستاذ اليساري في مسلسل “أستاذ ورئيس قسم”، ومرة أخرى أقبل الناس على مشاهدة العمل بلا تردد، وما تلاه من أعمال، وهكذا عاش الزعيم “عادل” ومات الزعيم “مبارك”.
وهناك ثورة أخرى ترفع شعار الصوابية وجدت في أعمال عادل إمام أهداف لها، فلا يخفى على أحد أن بعض أعماله سمحت بتمرير مشاهد من التحرش والتنمر مثلًا في إطار كوميدي، لكن لم ينل الهجوم الحجم المتوقع بما يتناسب مع مكانة “إمام” بين أبناء مهنته، ربما هناك سبب ساعده على رد الهجوم، وهو أن مجتمع الزعيم نفسه لا يزال بعيدًا قليلًا عن الاقتناع بمعظم أفكار الصوابية، وإن كنت أرى عمومًا أنه ليس من العدل الحكم على أي إنسان وفق معايير حديثة لم يعرفها عصره، لكن التصحيح والاعتذار شيء أخر.
الثورة الأخيرة، ثورة الجيل الأحدث، هي الأغرب من وجهة نظري، فإذا كان السابق من الثورات مبني على الوعي، فالثورة الحديثة تعتمد على اللاوعي، وأقصد هنا أن كثير من شباب الجيل الأحدث شاهدوا أعمال قليلة للغاية لعادل إمام لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة ربما، لكنه ظل زعيمًا لهم بطريقة غير متوقعة عندما وجدوا في تعبيرات وجهه مئات الصور التي ناسبت “الميمز” التي يصنعونها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهكذا استمر الرجل على كرسيه يأبى السقوط بعد ثلاث ثورات.
على كل حال، أردت أن أكتب عن بعض من عهد عادل إمام الذي عشناه، وسواء اتفقنا أو اختلفنا حول كيف كان هذا العهد، فالزعيم قد أعلن منذ فترة بسيطة نهاية حقبته بالتنحي فنيًا، دون ثورة، دون خطاب، لكن مع الحب والاعتزاز.