ربما سمعتم بمصطلح الجدل البيزنطي من قبل، ولمن لا يعرفون طبيعة ذلك الجدل بالتحديد، فالحكاية تقول إنه في القرن السابع الميلادي، صار الجدل اللاهوتي في مجالس الإمبراطورية البيزنطية -المجالس العمومية والخاصة-، هو الشاغل الأبرز للمجتمع بمختلف طبقاته.
حينها قضى البيزنطيون معظم أوقاتهم يجادلون بعضهم البعض حول الثالوث وطبيعة الأب والابن، واستمرت تلك الجدالات طويلًا رغم أن الإمبراطور قسطنطين الثاني قرر في مرسوم شهير منع الجدل وتهديد المجادلين بالعقوبات منتصف القرن السابع، لكنك ستقرأ عن استمرارها بنفس الضراوة حتى القرن الخامس عشر.
الجدل البيزنطي تميز بثلاث مواصفات مهمة: الأولى أن طرفي الجدال ظلا على موقفهما دون أن يقتنع أحدهما برأي الآخر أبدًا، الثانية أن الجدال خُصص للاهوت فقط وتجاهل أمور الحياة الأخرى، المعيشة والسياسة والأهم بالنسبة للموقف التاريخي وقتها “المسألة الأمنية في صد المحتل العثماني على أبواب الإمبراطورية”، أما الصفة الثالثة فكانت مشاركة جميع الأطياف في الجدال، انشغل المزارعون والبناؤون والفرسان والمفكرون باللاهوت وأهملوا أي محاولة لتطوير مجالاتهم نفسها.
نحو تسع قرون من الجدال الديني انتهت بالانهيار والدمار، لحظة دخول جنود السلطان العثماني محمد الثاني شوارع بيزنطة، التي امتلئت بالدماء والبكاء والندم، وأستطيع تخيل دهشة محمد الثاني وهو على أبواب الإمبراطورية من حالة الغيبوبة التي وجد المجتمع البيزنطي يعاني منها، فها هو بجيشه يحاصر إمبراطورية، صرف شعبها ومفكروها وقتهم ومجهودهم على جدال ديني لم ينفعهم ولم يصل للنهاية أبدًا.
عندما قرأت تلك القصة أول مرة، لم أصدق أن تصل الغيبوبة الفكرية بمجتمع ما إلى ذلك الحد، والسيف فوق عنقه يجادل في الناسوت واللاهوت والروح القدس، لا السيف ولا عنقه.
لكني أصدق القصة بتفاصيلها الآن، نعم يُمكن أن يُغيب الجدال الديني مجتمعات لقرون طويلة، نحن بأنفسنا أبرز الأمثلة على أن التاريخ يُحب أن يُعيد نفسه، بيزنطة ها هنا، والجدال يتجدد من آن لآخر، بين جماعة تكوين وتحصين وأسلافهما، وقعت البلاد في جدل بيزنطي طويل، تقدمت الأمم في العلوم كافة، وصرفنا نحن وقتنا على مجادلات بول الإبل، زارت الأمم القمر فجادلنا أنفسنا عن القبلة هناك في أي اتجاه، عرفت الأمم تاريخ الأرض وباطنها ولا يزال جدالنا يدور حول أمسطحة هي أم كروية، واليوم بالتحديد ونحن على رقابنا سيف الفقر والجهل والفوضى وخطر بعض المجرمين على بُعد كيلومترات من أرض بلادنا، تجاهلنا السيف والرقبة وانصرفنا إلى جدالنا البيزنطي عن البخاري والبيرة وملابس فاطمة ناعوت.
والسؤال هنا يجب أن يكون، كل هذا الجهد والوقت والفكر الضائع منذ قرون، والذي سيضيع لاحقًا بين تكوين وتحصين، أكان من الممكن أن يصل بنا إلى مصاف آخر إن وفرناه لجدالات أهم؟ لنجادل أولًا عن حرياتنا وحقوقنا وسياساتنا وأمننا، وإن تبقى الوقت بعد ذلك لنجادل كما نشاء في ما حدث منذ ألف عام وأكثر، أو على الأقل لنجعل نصيب واقعنا من جدالنا أكبر من نصيب ماضينا، وحتى ذلك الحين فإقامتكم جميعًا سعيدة داخل أسوار بيزنطة.