منذ أبريل 2022، ومع الدعوة الرئاسية لإطلاق الحوار الوطنى، والتي سبقها بأيام قرار إخلاء سبيل عدد يزيد عن 40 من سجناء الرأي، ولحقها على مدار عام تقريبا قرارات عفو رئاسى وإخلاء سبيل لعدد تذهب التقديرات إلى بلوغه 1400 أو أكثر قليلا، وعلى مدار هذا العام تصاعدت الآمال وتكررت الدعوات لتصفية كاملة ونهائية لملف سجناء الرأي، رغم بعض التعثرات، ورغم البطء المتكرر، ورغم تراجع الأعداد التي يتم الإفراج عنها بين الحين والآخر، وحتى رغم القبض على آخرين، وإن كانت بوتيرة أقل عما كان سائدا في السنوات السابقة، بنفس الإتهامات وربما لنفس الأسباب، سواء تعبير عن الرأي أو كتابة على وسائل التواصل الإجتماعى أو غيرها من الأسباب التي لا يمكن أبدا أن تكون سببا للحبس بتهم تتعلق بالإرهاب وما شابه.
الآن ومع إقتراب مرور شهرين على بدء الحوار الوطنى الذى كان المناسبة الرئيسية التي جرى على هامشها كل ذلك، وبعد تراجع واضح في وتيرة ملف الإفراج عن سجناء الرأي الذى شهد إخلاء سبيل عدد محدود في يوم إفتتاح الحوار الوطنى نفسه وقائمة واحدة بعدها، وكذلك مع اقتراب ذكرى عيد الأضحى التي تمثل أحد المناسبات التي تشهد عادة قرارات عفو رئاسى وكذلك قرارات إخلاء سبيل، ومعها أيضا ذكرى 30 يونيو، يبدو تجديد الدعوة لإصدار قرارات عفو وإخلاء سبيل أمرا بالغ الأهمية، لمصداقية الحوار الوطنى وجديته من ناحية، ولحقوق هؤلاء السجناء وأسرهم وتجديد الأمل لديهم ولدى غيرهم بأن هذا الملف لم يتم إغلاقه، ولإستحقاق مصر وشعبها أن يقترب يوم يعلن فيه أن مصر صارت بلا سجناء رأى.
(1)
في هذه الأيام ومع اقتراب إجازات الأعياد، ربما لا يعرف كثيرون أن تلك فترة تكون من أقسى وأصعب فترات السجناء، لأن هذه الإجازة غالبا ما تكون فترة إغلاق كامل على السجناء داخل زنازينهم، أسبوع كامل وربما أكثر سيكونوا داخل غرف مغلقة بأبواب حديدية دون فرصة للتحرك ولو لوقت قصير يوميا فيما يسمى بالتريض ودون تعرض للشمس، ومع مشاعر مؤسفة ومؤلمة تتجدد مع كل عيد أو مناسبة بالحرمان من صحبة الأهل والأحباب مهما طالت فترة السجن، ولا يخفف منها سوى الزيارات الإستثنائية التي تأتى في المناسبات والأعياد.
فما بالك وهذه المناسبات تأتى مع تراجع واضح على مدار الشهرين الأخيرين في ملف الإفراج عن سجناء الرأي دون أسباب واضحة أو معلنة، وعلى العكس فقد كان من المتوقع أن تتزايد وتيرة التحرك في هذا الملف مع بداية الحوار الوطنى، ودعونا نقول بوضوح أن هذا في ذاته كان واحدا من الدوافع الرئيسية لكثير ممن شاركوا في الحوار الوطنى لتشجيع السلطة على الإستمرار بشكل أوسع وأكبر في قرارات العفو وإخلاء السبيل، ومع ذلك فما يبدو على السطح حتى الآن هو العكس.
هذه فرصة لتجديد الأمل في نفوس السجناء وأسرهم، بالإفراج عن دفعات جديدة، وإستعادة هذا المسار بما يخلق أجواءا أكثر إيجابية للمرحلة المقبلة، وهى مسئولية مشتركة بين كافة الأطراف المشاركة في الحوار، وبين مجلس أمنائه الذين كرر الدعوات كثيرا للإفراج عن السجناء وصار واجبا أن يلعب دورا أكبر في هذا الملف لأنه مرتبط إرتباطا وثيقا بجدية الحوار ومآلاته، والسلطة بمؤسساتها وأجهزتها، فضلا عن رئاسة الجمهورية والنيابة العامة أصحاب القرار في ملفات العفو أو إخلاء السبيل.
(2)
مع كل قرار عفو رئاسى أو إخلاء سبيل، كسبت جميع الأطراف .. استرد سجين حريته، واستعاد أهله وأحبابه ولو جزئيا جانبا من حياتهم الطبيعية، وكسبت السلطة بالصورة التي تقدمها بسيرها قدما في الإفراج عن سجناء لم يتورطوا في عنف أو دم أو فساد، وكسبت المعارضة بسعيها وإصرارها على إعتبار ذلك الملف أحد مقدمات وضمانات الحوار الوطنى.
ولا يعنى بدء الحوار الوطنى بأى حال أن هذا الملف يفترض أن يتوقف أو ينتهى، بل على العكس أن تتزايد المساعى فيه وتتسارع خطواته، وتتضح وتتحدد معاييره، وتمتد لما يخص ضمان عدم تكرار مأساة التوسع في حبس سجناء رأى في المستقبل عبر تعديلات تشريعية جادة لكل نصوص الحبس الإحتياطى في كافة القوانين وليس قانون الإجراءات الجنائية وحده، وهو أمر يفترض أنه من القضايا ذات الأولوية على أجندة الحوار الوطنى ومع ذلك لم تبدأ مناقشته في أي جلسة حتى الآن وهو ما يفترض التعجيل به في أول انعقاد جديد لجلسات الحوار.
مجددا فإن ملف سجناء الرأي ملف ضاغط على الجميع، وصحيح أن بعض الأطراف قد ترى أنه ليس الأولوية وليس الملف الأهم أو على الأقل ليس الوحيد المهم، لكن الحقيقة أنه مدخل جاد وصحيح ومريح للجميع، سواء من حيث تخفيف أي احتقان، أو من حيث تأكيد مستمر ومتوصل لجدية السعي لإنهاء تلك المأساة، ومن حيث مصداقيته للدلالة على وجود مساحة انفتاح حقيقى، وحتى من حيث إزاحته من على ساحة الملفات الأخرى الهامة التي تحتاج نقاشا وجدالا.
وملف سجناء الرأي ليس مجرد ملف سياسى وإن كان كذلك بإمتياز، وإنما هو أيضا ملف اجتماعى يخص الكثير من الأسر، وملف إنسانى يخص الكثير من السجناء الذين يعانون أوضاعا صعبة، وملف وطنى لأن مصر تستحق أن تزيل آثار ما جرى في هذا الملف على مدار السنوات السابقة.
(3)
الأسماء كثيرة، حتى وإن اختزلت أحيانا في أسماء بارزة وشهيرة، لكن الحقيقة أن أعداد أكبر من تلك الأسماء قد لا تكون معروفة ولا مرتبطة بقوى سياسية أو حزبية، بل وبعضها قد لا يكون له أدنى علاقة بالسياسة من قريب أو بعيد وإنما فقط كتب أو عبر عن رأى، أو قبض عليه ضمن حملات قبض موسعة جرت في بعض اللحظات والأحداث، ومع ذلك استمر لشهور وسنوات محبوسا إحتياطيا .. وبقدر ما يمثل الإفراج عن هؤلاء الذين أصبح يطلق عليهم مصطلح (المشهورين) أمرا بالغ الأهمية لما له من أثر إيجابى ودلالات هامة على الصعيد السياسى والحقوقى، لكن أيضا الإفراج عن غيرهم أمر بالغ الأهمية والتأثير، لأنه لا يمكن لأحد أن يقدم قوائم تحصر سجناء الرأي بالكامل في ظل التوسع الذى جرى في السنوات الماضية في سياسة الحبس والملاحقة الأمنية، كما أنه لا يمكن لأحد أن يرفض الإفراج عن أي مظلوم حتى لو لم يكن يطالب بخروجه لعدم معرفته به وإنما ما نحتاجه بوضوح شديد هو خطوات جادة وعاجلة وسريعة في هذا الملف بكل مستوياته لضمان وتأكيد إستمرار التحرك فيه حتى آخر سجين رأى.
لا أحد هنا يدعو للإفراج عن متورطين حقيقيين في عنف أو دم، وإنما سجناء الرأي المظلومين، وغيرهم من المظلومين أيضا الذين لا علاقة لهم حتى بالقضايا التي حبسوا على ذمتها، ولا يمكن تصور أن بقاء أي سجين مظلوم داخل السجن أمر مقبول أو مستساغ أو يحمى الوطن أو يضمن الاستقرار أو يخلق مناخا جديدا إيجابيا.
وقد يكون مفهوما – رغم الخلاف المؤكد مع ذلك المنطق – قلق بعض الأطراف من الإفراج عن أسماء بعينها، أو تأجيلها، لكن الحقيقة أن الغالبية العظمى من الحالات الشبيهة التي جرى الإفراج عنها على مدار العام الماضى أثبتت بالممارسة عكس ذلك، وأن خروج سجناء الرأي وممارستهم حقهم في التعبير والعمل السياسى السلمى لمن يرغب منهم في ذلك كان أثره الإيجابى أكبر كثيرا من التخوفات السلبية الأمنية المعتادة، كما أن الحقيقة المؤكدة والمباشرة أن كل تأجيل وكل تردد يعنى وقت ضائع من حياة شخص ليس مجرد رقم، وحياة أسرة، وحياة الوطن كله.
(4)
ملف سجناء الرأي ملف بالغ الأهمية والأولوية، والأثر والمصداقية، وكل قرار إيجابى فيه بالإفراج عن سجناء يفيد الجميع دون إستثناء، وهو الآن يحتاج لخطوة تعيد ضخ الدماء في شرايينه أولا بمناسبة الأعياد، لكنه أيضا يحتاج لتصورات واضحة بخصوص مساره في الأسابيع والشهور التالية، بدءا من إنتقاله من مرحلة الأسماء إلى مرحلة المعايير، مرورا بسرعة إدراج مناقشة قضية الحبس الإحتياطى في جلسات الحوار الوطنى والمسارعة للخروج بتوصيات محددة بخصوصه وتنفيذها، وبالتوازى مع وجود إعلان لتوجه واضح يلتزم بوقف سياسة الملاحقة الأمنية لأصحاب الرأي أو ممارسى العمل السياسى السلمى، ووصولا إلى تطوير شكل مؤسسى جاد وشامل يتعامل مع هذا الملف بشكل شفاف ومباشر بمشاركة كل الأطراف ذات الصلة.