أنتمي إلى جيل تعرَّف من أساتذته الكبار، وفي مقدمتهم “العميد” طه حسين، وتوفيق الحكيم، وسلامه موسى، والدكتور حسين فوزي، والدكتور لويس عوض، وغيرهم، على الكثير من أمور الحياة الفكرية والثقافية والإبداعية والسياسية في الغرب (الديمقراطي)، الذي برز أمام ناظرينا كمنارة للحريات الإنسانية والسياسية، ومصدر للتنوير الفكري والإشعاع الحضاري، ومنبع للإلهام الروحي، وموئل للضمير الحي.
فعلى أراضيه وقعت الثورات على حكم الجور وجبروت الإقطاع، وفي ساحاته تفجَّرت الحرب ضد محاكم التفتيش الظلامية، وداخل محافله الأكاديمية وأروقته تم الانتصار للعقل والمعرفة، والتخلُّص من الغوغائية والظلاميّة، والاحتكام للمنطق الواضح والحُكم الرشيد.
وبقدر ما شاعت هذه الرؤية، وامتد لعقود تسلُّطها على العقول، وبسطت سيطرتها الشاملة على المُعتقدات والأذهان، بمقدار ما كانت صدمة المتأثرين بها، المبهورين بوجهها المتألق الباهر، أو لنقل المخدوعين بشعاراتها البرَّاقة، صدمة عنيفة ومُفزعة!
فالأنصار الذين أسرتهم أضواء “الديمقراطيات” الغربية المُبهرة، المأخوذين بتألق نجومها في مجالات الفكر والفلسفة والأدب والفن والإبداع، والذين كانوا يرون في “حكمة الغرب” أمراً قدرياً ومحسوماً ولا يحتاج لمحاججة، أو الاستدلال ببراهين: كيف لا ؟!، ونجوم الفكر الغربي هم نجوم المعرفة والرأي السديد، الذين يتحركون تحت الأضواء من كل اتجاه: ألا تذكرون “ألبير كامو”، ثم “جان بول سارتر”، و”سيمون بوفوار”، وغيرهم من رموز ثقافة الغرب ؟!، والاهتمام الفائق الذي كان كان يُقابل به كل حرف (مُبارك) يخرج من بين شفاههم الميمونة، وكيف احتُفِي بهم في زياراتهم لنا، رغم تعاطفهم الأساسي مع “إسرائيل”، ورغم أنهم جميعاً كانوا يملكون فرصة المعرفة الحقيقية لدقائق الأمور، ويفهمون جيداً أن الكيان الصهيوني كائن مُصطنع ألَّفت بين شظاياه الدول الإمبريالية: فرنسا وبريطانيا ثم الولايات المتحدة وباقي دول الغرب، ويعلمون علم اليقين أبعاد الصراع بين حق الفلسطينيين، وباطل الصهيونية.
لقد أفاق الكثيرون، ونفرٌ عديدٌ منهم من ذوى النوايا الطيبة، على حقيقة مُرة كالحنظل: فالواقع أن هذا الغرب المُدَّعِي، كان يمثل دور راعي الحريات وملجأ المحرومين منها، و”الأب الروحي” للتوَّاقين إلى نسيمها، وهو يعلم علم اليقين، أن التظاهر بالإيمان بهذه القيم النبيلة مجرد أداة للخديعة، ووسيلة للتخدير… فمصالحه المادية، ومطامعه الاستعمارية والإمبريالية فوق كل قيمة أو اعتبار، وحين أزف وقت الجد، خلع كل أردية الدفاع عن “الحريات”؛ وألقى إلى الأرض بأقنعة الانتصار لـ “حقوق الإنسان” والانتماء لشعارات “الحرية، والإخاء، والمساواة”، وإدانة الاستبداد (الشرقي!) وادعاء الوقوف مع المظلوم، والإيهام بالدفاع عن استقلال البلدان، والوقوف في وجه الطغيان الذي يفرض سطوته بالقتل والدمار على الشعوب المُستضعفة، التي تحلم بالحرية والكرامة!
وعلى العكس تماماً: فقد رأينا الولايات المتحدة، التي يُشرف تمثال الحرية على مدخلها حاملاً مشعل النور وضياء الأمل، والمكتوب على قاعدته:
“هلموا إلي أيها المتعبون والفقراء، والجموع الحاشدة التوّاقة إلى استنشاق الحرية والبائسون المُهملون الذين يملؤون شطآنكم. أرسلوا أؤلئك المشردين الذين تعصف بهم الزوابع إليّ، فأنا أرفع مصباحي عند البوابة الذهبية”!
رأينا تمثالها الشهير، يحرق بمشعله اللاهب البيوت البسيطة لملايين الفلسطينيين اللذين يلوذون بأنقاضها البائسة لاتقاء عصف آلات الدمار الصهيونية، دون أن يرف جفن لحكامها الأشاوس، وعلى رأسهم قادتها الكبار: “جو بايدن” وأركان حربه، الذين هرولوا إلى الربيب المُدلَّل.. الكيان الصهيوني، مُدججين بالأساطيل وحاملات الطائرات وجنود “المارينز” ومئات الطائرات والسُفن المُحمَّلة بأحدث وأخطر الأسلحة والذخائر، هدية مجّانية من “زعيمة العالم الغربي”، مُساهمة في ذبح فلسطين؛ الضحية المُستباحة، وشعبها الأعزل الصامد، ثم رأيناه لا يدخر جهداً للإلقاء بثقل الإمبراطورية الأمريكية الخطير، لتعطيل أية محاولة لتمرير قرار أُممي يوقف المجزرة، أو رفع الغُبن عن الفلسطينيين، على أي مستوى!
ولكي تكتمل المهزلة لا يتوانى أقطاب الدول “الديمقراطية” الغربية الكبرى: إنجلترا، وفرنسا، وألمانيا، وغيرها عن التسابق لمد اليد لـ “الضحية البائسة”، “إسرائيل!” التي تتعرض للعدوان من شعب فلسطين المُحاَصر الأعزل!، مُقدمين المال والسلاح والدعم السياسي والغطاء الدبلوماسي للممارسات الإجرامية لعصابات القتلة وزعيمهم “نتنياهو” في “تل أبيب”، مُتجاهلين تماماً وقائع حرب الدمار الصهيونية الشاملة، وعناصر عملية الإبادة العنصرية المُمنهجة، التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة!
وحدهم، الناس البسطاء الطيبين أصحاب الضمائر الحيّة والروح النبيلة، من شتّى المستويات والثقافات والأعمار، من الشخصيات الطبيعية الأمينة، أمريكيين وأوروبيين، ومن بلدان أخرى بعيدة: نيكاراجوا، وكولومبيا، وبوليفيا، وأسبانيا، وكوبا، والصين، وروسيا.. إلخ، ومعهم جماهير شعوبنا الطيبة المكلومة في مصر والوطن العربي، والجموع التي لم تشوهها عنصرية أو تُلَوِّنها تطرُّفات عقيدية، ذات الحس الإنساني الصادق، والعديد منهم من يهودي الديانة، لم يمنعهم الانتماء الديني عن إدراك مَن هم أصحاب الحق في الأرض والوطن، وعن الخروج إلى الشوارع، والتظاهر ـ بعشرات الآلاف ـ حاملين الأعلام الفلسطينية، تأييداً للشعب الصامد، وبعضهم حمل شعار: “الحرية لفلسطين، من النهر إلى البحر”!
غير أن الظاهرة الأهم في الشهور الثمانية الأخيرة، والمُتصاعدة، عُمقاً واتساعاً، منذ اندلاع ثورة “طوفان الأقصى”، كانت ولا شك حِراك طُلاب الجامعات الأمريكية والغربية، وشبابها، الذي فاجأ الجميع، وأساساً الكيان الصهيوني المارق، والنظم الغربية والعربية الخانعة، رغم عُنف المواجهة الأمنية الأمريكية والغربية (الديمقراطية للغاية!) لهذا الشباب الغض، لانحيازه إلى الحق الفلسطيني، وخاصةً مع اجتياح هذه الانتفاضات الشبابية والطُلابية لجامعات ومعاهد النخبة، التي ستتولى ـ شاء مَن شاء، وأبى مَن أبى ـ في المستقبل المنظور إدارة شؤون بلادها… وساعتها سيكون لكل مقامٍ مقال!
وعودة إلى البدايات: ففي مقال مُهم (المصور ـ عدد 2 أبريل 1948)، والبلاد على مشارف وقائع “النكبة” التي نعيش ذكراها الآن، يُثير “العميد”، د. طه حُسين، قضية اقتصار النخبة البيروقراطية، المُتحكِّمة في شؤون التعليم وثقافة المجتمع، وتقرير توجُّهاتهما ومضامينهما، على الانحياز لتعليم اللغة الإنجليزية ثم اللغة الفرنسية في مقامٍ تالٍ، مُتجاهلةٌ أن، “في المعمورة حضارات أخرى غير الحضارة الغربية ولُغاتها الأساسية”، مُشيراً ـ على سبيل المثال ـ إلى وجوب التوسُّع في تعلم اللغة الروسية، فـ “لولا أن أُحْفِظُ بعض الصدور، لذكرت اللغة الروسية أيضاً، ففى الثقافة الروسية أدب وعلم وفن، فليست الثقافة الروسية شيوعية كلها”!، إذ كان العالم كله، ومصر في قلبه، في أوج صراعات “الحرب الباردة” في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ويُجزم “العميد” أننا: “جعلنا العقل المصري حِكراً، تقتسمه الثقافة الفرنسية والانجليزية منذ بدء نهضتنا الحديثة… وقد آن لنا أن نُحَرِّرُ العقل المصري والقلب المصري من هذا الاحتكار”!!
وأخيراً فلعل أفضل ختام لهذه “التأملات” أن نتذكر ـ وأن نستظهر ـ كلمة فتاة شبة من المُعتصمين في إحدى الجامعات الأمريكية دفاعاً عن فلسطين الأبيّة: “العالم بحاجةٍ ماسّة للتغيير.. ويجب أن نكون مَن يفعل ذلك”.